خبر

هذه قصة أول أمير عربي يردّ على الأتراك بالفُصحى!

اكتسب (حيص بيص) شهرة معاصرة، عندما صار لقباً لشخصية امرأة دمشقية بسيطة تدير فندقاً، وأدّتها الفنانة الراحلة نجاح حفيظ، في المسلسل السوري الشهير (صح النوم) في دورها المعروف بـ(فطوم حيص بيص)، ويتصارع للفوز بقلبها اثنان، هما (غوار الطوشة) أداها دريد لحام، و(حسني البورظان) أداها الراحل نهاد قلعي.

حيص بيص أمير عربي وهذا هو

لكن لقب (حيص بيص) قديم، في الحياة العربية والإسلامية، وأول من أطلق عليه، هو الشاعر سعد بن محمد بن سعد الصيفي التميمي البغدادي، المكنى أبو الفوارس، والمعروف بحيص بيص (492-574) للهجرة. وهو شاعر مرموق وعلى الرغم من كونه من أدباء القرن السادس للهجرة، تنتمي أغلب مفردات شعره إلى العصر الإسلامي الأول وإلى العصر الجاهلي، كما يقر بذلك مؤرخو الأدب.

ويعود حمل حيص بيص، ذلك اللقب، لروايتين مختلفتين، إحداهما أكثر شهرة من الأخرى، وكلاهما في بطون المصنفات القديمة. الأولى تقول إن أبا الفوارس حمل لقب حيص بيص، لمّا رأى الناس يوماً في "حركة مزعجة وأمر شديد، فقال: ما للناس في حيص بيص؟ فبقي عليه هذا اللقب". ويسردها ابن خلكان في (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان)، وكذلك يفعل ياقوت الحموي في (معجم الأدباء) ومصادر مختلفة.

ومعنى كلمتي حيص بيص، الشدة والاختلاط، وتقول العرب "وقع الناس في حيص بيص، أي في شدة واختلاط". يوضح ابن خلكان، وهو متفق عليه بالكامل.

أما الرواية الثانية لإطلاق لقب حيص بيص على الشاعر سعد أبي الفوارس، فهي أن صديقاً له مشاغباً ويدعى ابن القطان، وهو هبة الله بن الفضل والمتوفى سنة 558 للهجرة، هو الذي أطلق عليه هذا اللقب، لإيقاع الأذى به ودفع الناس للسخرية منه والتندر عليه. صاحب هذه الرواية هو الدمشقي ابن أبي أصيبعة، أحمد بن القاسم بن خليفة السعدي الخزرجي (600-668) للهجرة، في مصنفه الشهير (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) الذي أدرج هبة الله في خانة الأطباء وأشار إلى كونه شاعراً أيضاً، ووصفه بـ"خبيث اللسان".

وتجمع الغالبية الساحقة من الإخباريين والمصنفين، على أن إطلاق لقب حيص بيص على أبي الفوارس، جاء بسبب تكلّفه عبارة (حيص بيص) التي نطقها بالفصحى وعلى ما فيها من استعمال لمهجور لم تعد العامة، ومنذ ذلك الوقت، تستعمله، فالتصقت به عبارة (حيص بيص) وصارت لقبه، إلى درجة أنها تسبق اسمه عند البعض. كابن خلكان الذي يبدأ ترجمته بلقبه مباشرة: حيص بيص، ثم يسرد الاسم الحقيقي.

كل كلامه بالفصحى

لكن هل كانت عبارة (حيص بيص) هي الجملة الوحيدة التي ينطقها أبو الفوارس بالفصحى؟ الإجابة قد تفاجئ البعض، وهي أنه لا يتكلّم بغير الفصحى، حتى بين الناس، وصار تكلّمه بالفصحى، علامة تدل عليه وميزة في شخصه، وها هو (وفيات الأعيان) يترجمه بالتالي: "ويقال: إنه كان فيه تيهٌ وتَعاظمٌ، وكان لا يخاطب أحداً إلا بالكلام العربي".

أما ياقوت الحموي فيقول في (معجم الأدباء) لدى ترجمته حيص بيص: "كان من أعلم الناس بأخبار العرب ولغاتهم وأشعارهم، وكان لا يخاطب أحداً إلا بكلام مُعرَب!".

إذن، كان حيص بيص، لا يتكلم إلا بالفصحى، حتى صارت علامة تدل عليه. لكن، لم كان يفعل ذلك وهو يعلم أنه قد يصبح موضوعا للسخرية والتندّر والطعن عليه، خاصة وأنه لقِّب بلقب، بسبب إحدى جمله الفصيحة، وهي (حيص بيص).

تذكر مصادر الإخباريين والمصنفين الإسلاميين، أن حيص بيص كان يتزيا أيضا بزي البادية العربية في لباسه، وكان يحرص على إبراز سيفه على خصره أينما ذهب. بما يذكر بشخصية (دون كيشوت) الشهيرة للإسباني سيرفانتس، والذي قد يكون تأثر بشخصية حيص بيص الفروسية والغرائبية، لكن الحالمة والمشبعة بالدلالات الإنسانية، خاصة أن حيص بيص، قد اكتسب لقب (أمير) رسمياً.

بقي حيص بيص في بطون الكتب والمرويات، مثل دون كيخوتي بالضبط، شخصية تستجلب لنفسها سخرية وتندراً، لكن في الوقت نفسه، حاملة لقيم عصر بعيد.

التكلّم بالفصحى رداً على النفوذ التركي

لكن لم كان حيص بيص يفعل كل ذلك: يتكلم بالفصحى، ويتزيا بزي أعراب البوادي، ويتقلد سيفه أينما ذهب؟ وكيف تحول إلى نموذج تهزأ منه الناس، في الوقت الذي كان فيه نموذجاً لشيء مناقض تماماً؟

توضح المصادر العربية، أن حيص بيص كان يتعمّد التحدث بالفصحى، وارتداء زي العرب، رداً منه على النفوذ الأجنبي التركي في الدولة العربية، كما تقول المصادر ومنها الحديثة التي جمعت ديوانه كاملاً.

كان حيص بيص يعيش في عز الدولة السلجوقية التي سيطر فيها العنصر التركي على جميع مرافق الدولة العربية في بغداد، ويبدو أن تكلّمه بالفصحى، كان تفاصحاً يتقصد منه إبراز الهوية العربية للدولة، ومنه حرصه على ارتداء زي أعراب البادية وتعليق سيفه على خصره أينما ذهب.

وجاء في دراسة مطولة أجراها المحققان العراقيان مكي السيد جاسم وشاكر هادي شكر في تقديمهما ديوانه عام 1974، أن حيص بيص الذي يتزيا بزي عرب البادية ويتكلم باللهجة البدوية الفصيحة، ويتقلّد السيف أنى ذهب، ويبدو في شعره كما لو أنه "أعرابيّ"، وتظهر قصائده كما لو أنها مكتوبة في صدر الإسلام أو العصر الجاهلي، فإن كل ذلك سببه: "ردّ فعل لما أحدثه عصره في نفسه من نقمة ومرارة، لغلبة العنصر التركي على كل ما في البلاد من أمور السياسة والاقتصاد".

كان حيص بيص يمارس نوعاً من المواجهة غير السياسية، مع التغوّل التركي في بلاده، وهذا هو سبب تعمده ارتداء زي البادية العربية واستعمال الفصحى حتى لو "تقعّر" في كلامه، كما كان يوصم في بعض المصنفات القديمة.

وبالاستناد إلى جملة من مصادر الإخباريين والرواة العرب، فإن محققي ديوان حيص بيص، ينقّحون ما وهم به مصنفون آخرون استغربوا تكلّمه بالمُعرَب كما يقول ياقوت الحموي، أو بالكلام العربي، كما يقول ابن خلكان. لقد كان الرجل يتعمد أن يبدو في صورته تلك، كما لو أنه خارج زمنه، كان يواجه السيطرة التركية على مقاليد البلاد، بترويج لغة العرب وحتى أزيائهم، بل إنه كان يكتب الشعر كما كانوا يكتبونه في صدر الإسلام أو ما قبله في العصر الجاهلي: "فكان قصارى ما يستطيع فعله، أن يبذل كل ما في جهده لإبراز الشخصية العربية ممثلة في شخصه!".

الأمير يعيش مجازفة

هكذا يظهر أن السمات الشخصية لحيص بيص، والمسمّى أميراً بمرسوم، وظهوره بمظهر الخارج عن زمنه، كانت متعمدة وردّ فعل، باستعماله الفصحى رداً على النفوذ التركي وقتذاك، ولم تكن سلوكاً يجيء عفو الخاطر، خاصة أنه كان يتكلم بالفصحى حتى بين عامة الناس، وكانت إحدى تلك الجُمل لقباً عليه وصارت اسماً له: حيص بيص!

ومن الجدير بالذكر أن إطلاق لقب حيص بيص، على الأمير الشاعر، لم يكن محاولة التشويه الوحيدة المقصودة التي تعرض لها، بل تم اختلاق قصة ملفقة عليه للتقليل من شأنه وتشويه صورته بين الناس، بأنه قام بقتل كلب يعوي عليه، بسيفه الذي لا يفارق خصره، وهي قصة وضعها صاحبه "خبيث اللسان" الطبيب هبة الله بن الفضل.

ومن العبارات الشهيرة المنقولة عن لسانه، أنه إن سئل عُمره يقول: "أنا أعيش في الدنيا، مجازفة" كما ورد في (وفيات الأعيان) الذي سبق وميّزه بالفصحى، وها هو يميزه بعربيّته أيضاً: "وكان يلبس زيّ العرب، ويتقلَّد سيفاً!".