كان الحديث يدور عن هواية جمع الطوابع، عندما بدا على ذلك الفتى ابن الستة عشر عاماً أنه لا يعرف عما يدور الحديث. فهو لم يرَ طابعاً بريدياً في حياته. ولا يمكننا أن نلومه على ذلك، طالما أن البريد الإلكتروني يكاد يكتم الأنفاس الأخيرة للبريد الورقي. ولكن شقيقته التي تكبره بأكثر من عشر سنوات، وسبق لها أن شاهدت طوابع بريدية، أعربت عن استغرابها بأن "مثل هذه الأشياء تُجمع"!
علماً أن جمع الطوابع الذي كان هواته قبل أربعين سنة أكثر من هواة كرة القدم، لا يزال "اقتصاداً" قائماً، له منتجوه، وأسواقه، ومجلات متخصصة، وكتب سنوية للتسعير، ومزادات علنية...
لسنا هنا لتناول موضوع هواية معيَّنة بل للإشارة إلى تبدّل فحوى مفهوم الثقافة في عصر يدعي نشر المعارف على أوسع نطاق.
بداية، ولإعطاء ما لقيصر لقيصر، لا بد من الاعتراف بأن جيل شباب اليوم يعرف "أشياءً" كثيرة، وربما فاقت كمّاً ما يعرفه جيل آبائهم. كما أنهم يسافرون أكثر، ونظرتهم إلى الأمور أكثر حدة، ولا شيء يثير استغرابهم غير استغراب آبائهم من لا مبالاتهم. ولكن ما هي هذه "الأشياء" الكثيرة التي يعرفها شباب اليوم أكثر؟
إنها "معلومات" اختارتها له "المفوضية الثقافية" المؤلّفة من المدرسة وشبكة الإنترنت ومنابر التواصل الاجتماعي والتلفزيون... ومن خلال مسابقات المعلومات العامة على سبيل المثال، التي تحمل أسماءً منافقة تعبّر عن التفوق، توهم هذه المفوضية الشاب بأنه فعلاً على قمة الهرم إذا عرف أين تقع عاصمة الماوماو أو من حقق هدف الفوز في ثالث مباراة كرة قدم أقيمت بين الموزامبيق ومالطا قبل خمسين سنة.
قد لا يعرف جيل الآباء كل هذا الكم من المعلومات التي يعرفها أبناؤهم، خاصة الجديدة جداً منها، ولكن عندهم "حديقة" يلجأون إليها عندما يريدون تكوين رأي، أو مواجهة قضية، أو التصرف بشكل سليم. وتتألَّف هذه الحديقة من خليط متجانس من خلاصة الكتب التي قرأوها وأهم ما فيها، ومن بعض أبيات الشعر والحكم القديمة المحفوظة في ذاكرتهم، والأعمال الفنية التي شاهدوها.. وهذه الحديقة هي ما يسمى "ثقافة".
إن أفضل المعلومات التي تضعها "المفوضية" في متناول الجميع عبر التكنولوجيا الحديثة هي في الحقائق العلمية. ومن دون التقليل من أهمية الحقائق العلمية، لا بد من لفت الانتباه إلى أن هناك فرقاً شاسعاً ما بينها وبين الثقافة. فكثير من جديد الحقائق العلمية يلغي أو يصوّب ما كان يُعدُّ سابقاً حقائق، أو يطورها. أما في الثقافة فالحقائق والمكوّنات تتراكم. ففي حين يمكن لمن يدرس الطب أن يكتفي في ممارسته لمهنته بآخر وأحدث ما توصل إليه الطب (وربما توجب عليه ذلك)، فإن الفن الحديث على سبيل المثال لا يلغي القديم، بل هو إضافة إليه، والرواية العربية المعاصرة لا تلغي روايات النصف الأول من القرن العشرين. وفي حين أن الحقائق في العلوم تبقى منحصرة في دائرتها الخاصة، فإن الحقائق في الآداب والفنون والعلوم الإنسانية تبقى على تشابك في ما بينها، وهذا التشابك، مضافاً إلى كل أنواع الحقائق، بما فيها العلمية، هو ما نسميه ثقافة.
وبتفحص الغذاء الثقافي المقدّم اليوم للأجيال الصاعدة عبر أدوات "المفوضية"، يمكننا أن نعرف محتواه من السعرات الثقافية بالتساؤل: كم مرة طالعنا اسم نجيب محفوظ أو إحسان عبدالقدوس على فيسبوك خلال السنوات الخمس أو العشر الماضية؟ وبكم تغريدة يحظى الشيخ حمد الجاسر أو ابن عثيمين سنوياً على تويتر؟ وهل يذكر أحدنا ورود اسم رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني في أي من برامج التلفزيون خلال السنوات الخمسين الماضية؟ وهل قرأ أحدنا نقداً لروايات تاريخ الإسلام لجرجي زيدان في أي صحيفة أو مجلة خلال السنوات السبعين الماضية؟
عندما نعرف الأجوبة على هذه الأسئلة لا يعود من حقنا أن نستغرب عدم معرفة شاب بوجود شيء اسمه "طوابع بريد".. فثمة فجوة هائلة بين معارف اليوم والأمس. ومن الصعب مناقشتها، لأن كل الأمثلة والمكوّنات عند أي من جيلي الأمس واليوم هي شبه مجهولة تماماً عند الآخر.
**حقوق النشر محفوظة لمجلة القافلة، أرامكو السعودية