خبر

كلمة عربية مخيفة للبشر ومفيدة للصحة ومهينة للرجال!

عندما قال ابن فارس في (مقاييس اللغة)، عن كلمة الجبن، إن الجيم والباء والنون، ثلاث كلمات لا يقاس بعضها ببعض، فذلك لأنه تهيّب الكلمة أصلاً، مثلما تهيّبها جميع واضعي أمهّات المعجمات العربية.

كلمة عجيبة فرّ أمامها، حتى صاحب المطوّلات في الشروح والتفسيرات، صاحب تاج العروس، والذي عادة يشير إلى رحلة الكلمة في الاشتقاق، وينشئ جسراً بين جذرها واشتقاقها البعيد، إلا أنه وهو آخر واضعي الأمهات، قال فيها، ما قاله سابقوه، فقط.
وعلى الرغم من كثرة استعمال الجبن، الذي للأكل، والجبن، الذي هو ضد الشجاعة وضد الإقدام، في العربية، إلا أن جميع أمهات معجمات العربية، لم تفصح للقارئ العربي، عن ماهية العلاقة التي جعلت اسم ما يؤكل، اسماً لنعت يُشتم به الرجال والنساء، وهو الجبن، وكذلك كيف صارت اسماً للمقابر في "الجبّانة" ومن الكلمة ذاتها، جاء الجبين والجبينان على طرفي جبهة رأس الإنسان.

لم يشغل سرّ اشتقاقاتها بال واضعي المعجمات

واقتصر ما أورده أصحاب (تاج العروس) و(لسان العرب) و(مقاييس اللغة) و(الجمهرة) و(تهذيب اللغة) و(كتاب العين) و(القاموس المحيط) على ما ينقله الأحدث منهم، عن الأقدم، وهكذا. لتظل كلمة (الجبن) تراوح بين معنى ما يؤكل، ومعناها ضداً للشجاعة، ثم الإشارة الرخوة غير ذات صلة، إلى الجبّانة، وهي المقبرة، دون أي توضيح من قبل واضعي أمهات العربية، يفسر اسم مأكول واسم نعت مذلّ واسم ما يدفن فيه الانسان، من كلمة واحدة!

ويظن القارئ، لوهلة، أن تعلّقه بقشة تاج العروس، قد تنقذه من الغرق بمعنى الكلمة، إلا أنه وحتى المطوِّل المسهِب الذي كان استطراده أحد أشهر عيوبه، يقف عند الجبن الأكل، والجبن الخوف، والجبانة المقبرة، ويتحدث عنها بدون أي رابط يسوّغ اشتقاق الكلمة وانتقالها من المأكول إلى المكروه إلى المدفون. وما فعله آخر واضعي أمهات العربية، جاء طبق الأصل لما فعله سابقوه، الجميع لم يوضحوا لقراء العربية، أي صلة تجمع اشتقاق الكلمات، وما هو الجذر الذي مكّن كلمة عن ما يؤكل، ليصبح كلمة عن نعت مهين، ثم يكون اسماً لمكان دفن الانسان، أو منه ما صار اسماً لجزء في الوجه، الجبين. يقول ابن دريد في الجمهرة: "ومن هذا الباب، الجبين جبين الإنسان".

سرّ الكلمة.. من خارج مكانها في القواميس!

ولدى الجميع: الجبان، هيوبٌ للأشياء، ويقال في النساء، الجَبَانة، أيضاً. والجبّان والجبّانة، المقبرة. بإضافة من لسان العرب تقول بالجبّانة والجبّان، اسماً للصحراء، ثم اتفاق الكل على أن الجبّان والجبّانة، ما استوى من الأرض في ارتفاع، وملُس ولا شجر فيه.

وخلص مقاييس اللغة، إلى أن الجبن، هو الذي يؤكل، وهو صفة الجبان، ومنه الجبينان، عن يمين الجبهة وشمالها.

واللافت في أمهات العربية، ذكر معان أو صفات جوهرية، للجبن، خارج سياق الكلمة الأصلية، إذ سنجد، مثلا، جملة "يغلظ كالجبن" أو "فصار كالجبن في الغلظ" وسواهما. ومثل تلك الاستعمالات، هي المعنى الخفي الرابط لاشتقاقات الكلمة المكونة من الجيم والباء والنون. فالغلظ، أو التجمّد، المفضيان لمعنى التوقف والاحجام والامتناع، هما الرابط بين الجبن المأكول الذي يجبن، بعدما كان لبناً، أي اجتمع وتكوّم وجمد. وهو الجبن الذي هو الخوف، تهيّب الأشياء والامتناع عن خوضها.

كلاهما يجبنان، يتجمدان ويمتنعان عن الإتيان بحركة أو فعل. فاللبن يجبن، يجمد، لا يتحرك، لا يأتي بحركة، ومنه الجبان الذي يقف ويمتنع ويجمد عن أي حركة، لأن فعل الجبن، في التوقف، غير الخوف الذي قد يفضي إلى حركات هلع وقلق.

ويأتي اسم المقبرة، جبّانة، من نسبة الشيء إلى الجبن. فالعرب تقول: "يجبِّن تجبيناً" أي يرمى بالجبن، أو ينسب إلى الجبن. فاستعمال التجبين، هل قاد إلى الجبّانة التي نسب إليها حال الجبن، عدم الإتيان بحركة والتجمد؟ فالجبّانة، تجبّن، توقع الجبن في القلب، وإلا لبقي اسمها مقبرة، ولم تكن هناك حاجة، لاستعارة صفة وتحويلها اسماً لها.

ويورد عدد من واضعي أمهات العربية، أن الجبّان، والجبّانة، الصحراء. دون أن يوضح الواحد منهم، لم للصحراء هذا الاسم؟ إلا ما فعله لسان العرب بقوله: "الجبّان والجبّانة، الصحراء، وتسمى بها المقابر لأنها تكون في الصحراء تسمية للشيء بموضعه!".

وتأتي الجبين القادمة من الجبن، أصلا وفصلاً، وهي تخرج شيئا ما من معنى التجمّد والإحجام والتوقف الذي في فعل الجبن الذي حوّل اللبن جبناً، وجعل الرجل جباناً، لتأخذ معنى البروز القادم من معنى الغلظة التي أشير إليها في حالة التجبّن "فصار كالجبن في الغلظ". فالجبين بارز، وفيه الارتفاع الذي أشارت إليه أمهات العربية في الجبّان: ما استوى في الأرض في ارتفاع. ويقول التاج: تجبَّن الرجلُ، غلظ. والقصد من الغلظة هنا، التكتّل والتجمد وعدم الإتيان بشيء، الإحجام والتسمّر، وهو الجبن الذي هو ضد الشجاعة، وما حل باللبن إذ تجبّن: جمد وتكتّل وغلظ.

65 اسماً للجبان ومنها الجبَّان نفسه!

ويشار إلى أن الجبن الذي هو للأكل، من الكلمات كثيرة الاستعمال عند العرب، لارتباطها باللبن وما يُحلَب، وأثمر اشتقاق الكلمة عن أفعال واستعارات شتى، كضد الشجاعة والمقبرة التي يخافها البشر، واسم جزء من وجه الانسان ومنها ما يهين الرجال، إلا أن جميع أمهات العربية، أغفلت الرابط ولم تحفر في طبقاته، وتركته معزولاً، خاصة وأن هناك 65 اسماً للجبان، في العربية، كل واحد منها ينطوي على خاصية ما، تبعاً لما ورد في كتاب (معجم أسماء الأشياء) للبابيدي، أحمد بن مصطفى الدمشقي، المتوفى سنة 1318، للهجرة.
ويفجّر اللبابيدي، مفاجأة لغوية من عيار ثقيل، كاشفاً جميع الروابط التي جعلت الجبن أكلاً وضد الخوف واسم جزء من وجه الانسان، إذ يؤكد أن "الجبين" من أسماء الجبان في اللغة العربية، وليس كذلك فحسب، إذ تبيّن أنه حتى "الجبّان" هو من أسماء الجبان! مع الإشارة إلى أن ما ينسب للجبن المأكول، يقال عنه (الجبني) بحسب تاج العروس.

ويؤكد الثعالبي في (فقه اللغة) أن معنى الجبان متدرج في اللغة العربية، فأوله من الجبن أي عدم الاتيان بحركة، والغلظ والتسمّر وعدم الإقدام، كما يحصل للبن إذ يتجبّن، فيقول إن الجبان هي أولى الأوصاف وحسب، يليها الهيَّابة، ثم المفؤود، أي ضعيف الفؤاد، ثم ورع ضرع إذا كان ضعيف القلب والبدن، ثم فعفاع ووعواع إذا زاد جبنه وضعفه، ثم منخوب ومستوهِل إذا كان نهاية في الجبن، ورعديدة ورعشيشة إذا كان يترعد ويرتعش جبناً، ثم هِردبّة إذا كان منتفخ جوفٍ لا فؤاد له، ويؤكد الأخيرة كتاب (التلخيص في معرفة أسماء الأشياء) لأبي هلال العسكري، إذ يقول إن اليراعة من أسماء الجبان، لأن اليراعة قصبة جوفاء، فشبّه الجبان بها، كأنه لا قلب له، ويضيف اسما للجبان وهو "المُسبَّه" أي الذي يذهب عقله من شدة الفزع.