خبر

حكاية القواميس.. مجلة اختارت أغرب اسم بسبب سوسة نخيل!

حتى وقت قريب، كان القاموس الصديق اللصيق للطالب والكاتب والمثقَّف، ومن المستلزمات التي لا غنى عنها في أية مكتبة شخصية مهما كانت صغيرة. أما اليوم، فثمَّة ظن عند البعض أن الترجمة الإلكترونية قضت أو ستقضي على القاموس الورقي التقليدي. والأمر غير صحيح. إذ إن للقاموس ميزات خاصة به وتختلف تماماً عن مواصفات أية مطبوعة قابلة للتحويل إلى إلكترونية. قد تغيب هذه الميّزات عن أذهاننا لبعض الوقت، ولكنها تستحق العودة إلى الالتفات صوبها. فالقواميس تستحق محبة خاصة.

القاموس هو اسم اصطلاحي لكل مصدر ترد فيه معاني جميع الكلمات في لغة ما، بغض الطرف عن الخلاف بين استخدام لفظة قاموس ولفظة معجم.

يمنح القاموس متصفحه تلك اللذة التي تصادفك عندما تبحث عن معنى كلمة، فتطالعك كلمات عديدة. لأنك وأنت تستخدم القاموس يجب أن تمسح ببصرك كل ما يسبق هذه الكلمة أو ما يليها من كلمات قبل أن تعثر عليها، ونحن نعلم أن الاتصال عبر اللغة التي قوامها الكلمات هو مصدر من مصادر قوة البشر، وقوة التواصل تعني قوة مخزون الكلمات، وهذا سبب آخر للإبحار في هذا البحر العظيم. وكلمة قواميس، هي جمع قاموس، وبالمناسبة فإن كلمة قابوس تعني الرجل الجميل الوجه الحسن اللون، وهذا تطبيق عملي لما ذكرت آنفاً، لقد عثرت فعلياً على معاني كلمات أثناء عملية المسح تلك وأنا أكتب هذا المقال.

وحين نمضي ما يكفي من الوقت ونحن نتصفَّح قاموساً ما، وأنواع القواميس كثيرة، أننا نعبر بكثير من الكلمات في سياقاتها المختلفة، وهي تصطف جنباً إلى جنب مع كل أخواتها، وكل منها ذات جذر مختلف عن أختها، ما يمنحنا لذة حصد عديد من الأفكار غير المتوخاة كما ذكرنا. فنعرف مثلاً أن لَبِسَ تعني استتر، أما لَبَسَ أي خلط عليه الأمر حتى لا يعرف حقيقته، ونعرف أيضاً الفرق بين القمح والقمَحْدُوّة.

صحيح أننا في القاموس قد نقضي وقتاً طويلاً ونحن نتطلع إلى كل الكلمات في اللغة ومعانيها ومترادفاتها، فنقرأ كلمات لم نسمع بها من قبل. ولكن هذا الوقت والجهد يمنحاننا القدرة على فهم أصول معاني الكلمات، ومن ثم إعادة صياغتها بطريقة تلائم حقاً ما نريد قوله. فالقاموس ليس مجرد موسوعة مفردات، إنه معين اللغة الصافي والمصدر الخصب للمعاني.

سألوا الكاتب الإنجليزي آلان مور ذات مرَّة عن أجمل الكتب التي أهديت إليه فأجاب بأنه النسخة الثانية الكاملة لقاموس دار راندوم هاوس الأمريكية للنشر والمعروف بـ "قاموس التراث الأمريكي للغة الإنجليزية". أما أليستر كروسلي فقد صرَّح مرَّة أن أقوى الكتب تأثيراً هي قواميس اللغة، فالقواميس مراكب تعبُر بنا ذاك العبور العظيم من الرمز إلى المعنى، ومن خلالها نملك نواصي النفاذ إلى عوالم التعابير الجميلة الممكنة، "وإن من البيان لسحراً".

يقول آرثر سكارجيل إن حياتنا تعتمد على مدى قدرتنا على إتقان استخدام الكلمات، ولأن الحياة تعتمد أحياناً كثيرة على موقفنا منها وتعبيرنا عن هذا الموقف بكلمات، فالقاموس سلاحنا في اختيار التعبير الذي نريد حقاً أن نطلقه إلى العالم.

وعلى صلة بموضوع القواميس يعمد كثير من الكُتَّاب والمترجمين إلى قواميس خاصة تعرف بـ "المِكنز" (Thesaurus)، وهي كتب متخمة بالكلمات المترادفة مسرودة بالترتيب الأبجدي، ولكن من دون معانيها. وفي هذا مكمن خطر، خطر أن نصطاد المعنى الخطأ. ولذلك يقول الروائي ستيفان كينغ: "كل كلمة تحاول اصطيادها من مكنز ستكون الكلمة الخطأ".

في هذا السياق، يمكننا أن نتذكَّر مجلة سان فرانسيسكو العريقة، التي اختاروا لها اسماً غريباً، هو "زيزيفا" (Zyzzyva)، وهو على التحديد اسم سوسة نخيل استوائية لونها أصفر وذات أنف طويل، اختار لها مكتشفها هذا الاسم لأنه لم يجد لها اسماً في اللاتينية ولا في البرازيل حيث اكتشفت، فاختار لها اسماً هو آخر كلمة في القاموس، وذلك على سبيل الطرافة. والأمر اللافت الآخر هو شعار المجلة: "نحن الكلمة الأخيرة!"

أنواع القواميس

تصنّف الموسوعة البريطانية القواميس إلى قسمين: قواميس عامة موجَّهة إلى المستخدم غير المتخصِّص العادي، وقواميس مخصَّصة للدارسين الأكادييمين. فمن القواميس العامة نذكر على سبيل المثال "قاموس اللغة الإنجليزية ميريام ويبستر"، الذي تعود تسميته إلى ويبستر الذي كتبه أول مرة، وعائلة ميريام التي اشترت حقوق طبع ما أعدَّه ويبستر. أما النوع الثاني فمخصَّص للبحث في أصول اللغة، ويجمع الكلمات القديمة للغات، وكذا قد يجمع الكلمات المستحدثة في البلدان التي تستخدم اللغة الإنجليزية، وهنالك نوع ثالث في الموسوعة البريطانية مخصَّص لتغطية كل تنوُّع ممكن في ألفاظ الكلمات وطريقة النطق بها، وكذلك الاستخدام، وبحث ارتباط الكلمات باللفظ القديم.

في دراسة أجرتها حول القواميس تشير بشرى نجاري إلى أن أنواع القواميس تمثل القواميس ثنائية اللغة التي ترشدنا إلى معاني الكلمات بين لغتين في قوائم مرتبة. وهنالك قواميس اللغة التي تبحث في معاني كلمات لغة بعينها. وهنالك القواميس الوطنية التي تبحث في لغة بلد معيَّن أو عدة بلدان من قومية واحدة. أما القواميس المتخصصة فهي القواميس التي تعطينا معاني المصطلحات في الفنون والعلوم كافة.

وإضافة إلى القواميس الشاملة، هنالك أنواع أخرى مختصة من المعاجم لا حصر لها، نذكر منها "معجم أسماء العرب" الذي رعى إنجازه السلطان قابوس بن سعيد، حيث كلَّف عدداً من المتخصِّصين في التسعينيات الميلادية، بالقيام بدراسة ضخمة على مستوى الوطن العربي لتوثيق كل الأسماء المستخدمة اليوم وإحصائها، مع تسجيل معانيها وأسماء من تسموا بها قديماً وحديثاً، و"معجم الأخطاء الشائعة" للعدناني، وكتاب "فقه اللغة" للثعالبي، وغير ذلك مما لا مجال لتعداده.

وهنا تجدر الإشارة إلى فرق بين المعاجم العربية والأجنبية، فالمعاجم الأجنبية عامة هي عبارة عن مسرد تصنف فيه المفردات حسب تسلسل الأبجدية، أي إنها لا تنتظم في نظام واحد. أما في المعجم العربي، فهناك طرق مختلفة لتصنيف المفردات، فالاشتقاق وسيلة، بمعنى اشتقاق الألفاظ من جذرها الثلاثي، وهناك التصنيف حسب الترتيب الصوتي.

القواميس وحياتنا كل يوم

تنتظم أهمية استخدام القواميس في حياتنا اليومية في مساعدتنا على التعلُّم، تعلُّم اللغات، وأيضاً في تعلُّم أمور عديدة أخرى، لأنه يعيننا على فهم الأشياء في مصادرها الأصلية. لذا نجد كل شارح لموضوع ما يبدأ بمعناه في القاموس، وقوة هذا الأمر تكمن في منحه إيانا الاستقلالية في التعلُّم والبحث والتطور، عبر البحث والاستيعاب للمفاهيم التي لا نجد لها أثراً "بعد" في لغاتنا أو الأبحاث المنشورة بلغاتنا الأم.

فمما يثير دهشتنا اليوم هو ما سخَّرته التقنية على صعيد تقريب التواصل. وإذا ألبسنا هذا التواصل قيمة إضافية تتمثل في القدرة على التواصل عبر التقنيات مع آخرين لا يشتركون معنا في اللغة نفسها، فهذا يمنحنا قوة أكبر. فكم صار سهلاً أن تتواصل مع أناس في بلدان مختلفة بلغتهم عبر تطبيق على الهاتف يترجم الكلمة وينطقها! أو أن نشير بكاميرا الهاتف نحو علامة أو عبارة على يافطة في الطريق بلغة لا نفهمها، فتفكك خوارزميات التعرف إلى النصوص في الصور طلاسم اللغة التي لا نتحدثها ولا نقرأها.

القواميس بكل أنواعها مهمة وضرورية في منحنا قوة التواصل. فمنذ القِدم وحتى اليوم، كانت ولا تزال وسيلة لتعزيز القدرة على التحكم بعلاقاتنا مع الآخرين. فمن تعلَّم لغة قوم أمن مكرهم وكسب ودّهم.

وأيضاً، تشير بعض الدراسات إلى أهمية تكامل عملية استخدام القواميس على أنواعها في عملية التعليم في المدارس والجامعات، لما تسهم فيه من تقوية حس المسؤولية في البحث والتعلُّم الذاتي.

تطوُّر القواميس بتطوُّر الحياة

بدأت كتابة القواميس بمحاولة بسيطة لجمع كل الألفاظ بين دفتي كتاب في القرن الثامن عشر الميلادي. ثم تطوّرت إلى طباعته مع حشد كل الشروحات لكل لفظ. ثم حان عصر الرقمنة فجمعت كل القواميس على أقراص رقمية تتيح للباحث استخراج المعاني من على شاشة الكمبيوتر. صار هذا التسارع الرقمي رافداً لسهولة وسرعة بحث المعاني واستخراجها بشكل آلي، فلا يهم أن يتعرف المرء على وسيلة استخدام القاموس، بل صار هناك مواقع عديدة مثل الباحث العربي أو المعاني، التي ما إن تضع في صندوق البحث كلمة أو جزءاً من الكلمة حتى يستخرج لك كل ما ورد في كتب اللغة الكبيرة، ويظلل المادة التي تريدها بلون مغاير. وصار الناس الذين يعملون في مجال الكتابة الإبداعية يلجأون بسرعة إلى تلك الأدوات سعيدين بسرعة الوصول إلى المعلومة.

ولكن من خلال مسح عام للقواميس المتوفرة في العالم اليوم، نجد أن وسيلة العرض هي التي أعطت شكلاً من أشكال التطوُّر ونعني بذلك أن عرض القاموس عبر قاعدة بيانات على شاشة حاسوب متصل بالإنترنت هو الأمر الجديد، أما المحتوى فلا يزال نفسه. لكن بالمقابل، ظهرت أدوات مختلفة لا يمكن أن نقول إنها معاجم بل هي أدوات تعمل اعتماداً على المعاجم والقواميس، مثل أداة ترجمة "قوقل" التي بدأت بالاعتماد على ما ورد في الترجمات المبنية على مرادفات المعاني في القواميس المزدوجة، لكنها اعتمدت أيضاً على الجمهور في تزويد قاعدة بياناته بالجديد من المصطلحات، وهذا سلاح ذو حدين. فمن باب سهولة التعديل على معنى مصطلح معيَّن قد ينفتح باب آخر للغلط وتشويه المعاني، وبالتالي تأثر عملية الانتقال من الرمز إلى المعنى تماماً. ويتصل بهذه الأدوات كل الأدوات العظيمة التي تساعد المترجمين في كل مكان في اختصار وقت الانتقال من اللغة المصدر إلى اللغة الهدف. وفي خضم هذا كله يظل المعجم على هيأته الأولى، مسرداً أبجدياً للمعاني، يضاف إليه ويتوسع ويعاد تشكيلة مرَّة بعد مرَّة. وتسهم في هذا الجهد الجهات غير الرسمية التشاركية، نذكر منها على سبيل المثال "مجمع اللغة العربية الافتراضي" الذي يواكب بقوة كل التحديات التي تواجهها اللغة العربية، ويتصدى للجديد في عالم اللغة ومعانيها والمفردات المستحدثة.

أيهما أفضل القاموس الورقي أم الإلكتروني؟

الجدل القائم في هذه الناحية هو شبيه بالجدل القائم بين الكتاب الورقي والإلكتروني بصفة عامة. والنقاط المثبتة في كل جانب قائمة هنا أيضاً. فمحبو الكتب الإلكترونية يزعمون أن السرعة وخفة الوصول إلى المعنى وسهولة التناول هي ميزات كبرى في البحث الإلكتروني عبر المواقع أو القواميس الإلكترونية الآلية التي درج استخدامها في وقت قريب قبل عصر الأجهزة الكفية الذكية، وتتيح النطق الإلكتروني للكلمات.

وفي المقابل، فإن أصحاب الرأي المرتبط بالقواميس الورقية يرغبون في أن تلتقط القاموس من على الرف للبحث عن معنى، وستجد شمولية الحديث عن تاريخ ومعنى وأصل الكلمة، والإمعان في النظر إلى القواميس يورث عمق المعرفة وقوة نقلها للآخرين، على عكس العبور السريع بمعنى على شاشة إلكترونية. كما أن العثور على معنى كلمة يصاحبه في أحيان كثيرة العثور بالصدفة على معانٍ أخرى، وفي هذا قيمة مضافة.

وأيضاً، تتيح القواميس المطبوعة فرصة الاطلاع على رسومات وصور تتعلق بالمادة تبعث عى البهجة والسرور. علاوة على أن الإمساك بكتاب قاموسي ضخم بين يديك لا بد وأن يثير فيك مشاعر الحنين والامتنان لكل من عمل على القاموس، ولن تعدم الاطلاع على أدبيات الكتابة والترميز في القواميس، وهو ما يفوتك بشكل آلي مع الأنظمة الإلكترونية للقواميس، حيث يأتيك المعنى من دون تدقيق في كون اللفظ فعلاً أو اسماً أو خلاف ذلك. فالقاموس المطبوع فيه وعي أكثر من الإلكتروني، الذي يفوّت على الباحث كثيراً من الأشياء اللطيفة في رحلته القصيرة جداً للبحث عن معنى كلمة.

**حقوق النشر محفوظة لمجلة القافلة، أرامكو السعودية