يعود الكشف عن هوية المرأة معشوقة الشاعر أبي الطيب المتنبي، إلى علمين بارزين في عالم التدوين العربي الحديث، هما المصري الملقّب بحارس التراث وشيخ العربية، المؤلف المشهور محمود محمد شاكر 1909-1997م، واللبناني الطبيب والعالم والمؤلف أمين بن فهد المعلوف 1871-1943م، والذي ينحدر من أسرة المعالفة التي قدمت للعربية أسماء كثيرة مشهورة على مختلف الصعد.
يشار إلى أن جانب الحب في شعر المتنبي، خاصة ما يتعلق منه بالمرأة، يعتبر عالماً غامضاً سواء في حياة الشاعر، أو شعره، على الرغم من أنه كشف، بحسب "الثعالبي" في "يتيمة الدهر" عن مدى تعلّقه بالنساء الأعرابيات، وكيف يفضّلهن على سائر النساء، إلا أن امرأة بعينها، بالاسم والعائلة، لم يتم الكشف عنها، إلا على يدي المصري شاكر واللبناني المعلوف، عندما أقر الأول أنه كان يستشف من شعر أبي الطيب أنه كان يهوى أخت سيف الدولة الحمداني، خولة.
وفي تفاصيل قصة الكشف عن هوية معشوقة المتنبي، يقول شاكر في مقدمة كتابه عن المتنبي، إنه التقى "الدكتور الطبيب الفريق أمين باشا فهد المعلوف، من رجالات أسرة المعلوف اللبنانية" وكان المعلوف في ذلك الوقت يعمل طبيباً في الجيش المصري، ومنح لقب باشا سنة 1933، ومنح تكريماً له، رتبة فريق في الجيش العراقي، وله كتب كثيرة في مختلف مناحي التأليف.
كما يكشف شاكر أنه تبادل أطراف الحديث مع المعلوف، فنقل له بأن لديه قناعة بلغت حد "اليقين القاطع" بأن المتنبي "كان يحبّ خولة، أخت سيف الدولة". وفيما كشف شاكر عن هوية معشوقة المتنبي، لم يكن يتوقع ردّ فعل المعلوف البارز والمؤلف واسع الاطلاع، حيث كانت المفاجأة بانتظار شاكر، عندما قام المعلوف بتقبيل رأسه، ثم أخذه من يده التي "أبى أن يفلتها على طول الطريق" كما أوضح، مضيفاً أن المعلوف أصر على اصطحابه إلى شقته في منطقة مصر الجديدة.
لم يجرؤ على البوح
وبحسب سرد شاكر، فإن الطبيب اللبناني كان قد وصل إلى القناعة ذاتها، بأن خولة هي معشوقة المتنبي، وقال لشاكر: "هذا دليلي على أن أبا الطيب كان يحبّ خولة". أما عن الدليل، بحسب شاكر، فهو ديوان المتنبي بشرح العالم اللغوي اللبناني المشهور ناصيف اليازجي، وهو أحد شيوخ العربية في العصر الحديث، ويحمل اسم "العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب".
وكان الطبيب المعلوف، قد احتفظ في بيته بشرح اليازجي لديوان المتنبي، وقلب صفحاته أمام شاكر الذي كان متردداً في إعلان حقيقة أن خولة أخت سيف الدولة، هي حبيبة المتنبي. وبحسب شاكر فقد قال معلوف له بعد أن أخبره بأن خولة هي معشوقة أبي الطيب: "أنا أسبق منك في الوقوف على هذه الحقيقة، خذْ يا محمود، هذا هو الدليل القاطع، اسمعْ". ثم قرأ عليه أبيات المتنبي التي يعتبرها دليلا قاطعاً على عشق المتنبي لأخت سيف الدولة، وأهم بيت فيها، ذلك الذي سبق وشرحه اليازجي، ويقول:
فلو كان ما بي من حبيبٍ مقنَّعٍ
عَذَرتُ، ولكن من حبيبٍ مُعمَّمِ
وكان اليازجي في شرحه ديوان المتنبي، قد ذكر أن "الحبيب المقنَّع" هو كناية عن المرأة، وأن "الحبيب المعمّم" هو كناية عن الرجل. وعلّق شاكر على شرح الديوان الذي قدمه له المعلوف، خاصة في شأن تصريح الأخير بأن خولة هي محبوبة المتنبي، فأقر بأن ذلك ساهم "بالتغيير" في ما كتبه عن المتنبي، مضيفاً: "وأي شيء أعظم أثراً في النفس، من أن تجد، فجأة، رأيا يؤيدك في رأي كنتَ تخاف إبداءه والبوح به".
سرّ بين المتنبي وحبيبته وأخيها
من الجدير بالذكر، أن كتاب شاكر عن المتنبي، صار المكان المفصّل لما سمّاه "المرأة التي أحبَّها أبو الطيب" باحثاً عن "الدليل" على ذلك، في شعر الرجل نفسه، بدءاً من قصيدة رثاء أخت سيف الدولة الصغرى، مروراً بوفاة "خولة" نفسها، والتي تشير كتب التراجم القديمة، إلى أنها ماتت سنة 352هـ، أي قبل مقتل المتنبي بسنتين، وكتب فيها قصيدة رأى فيها شاكر، من ضمن أدلة أخرى مفصلة في كتابه، أنها تثبت أن خولة هي معشوقة المتنبي، كما أنه أكّد أن أخاها، سيف الدولة، كان على علم بهذا الحُب: "ولا نشكّ نحن، من قبل ما جمعناه عندنا من الدلائل، في هذا الأمر المتعلق بحبّ أبي الطيب وخولة أخت سيف الدولة، في أن سيف الدولة كان على علم بما كان بينهما من المحبة الغالبة على أمرهما".
وفي سياق سرية العلاقة بين أبي الطيب وخولة، ومعرفة سيف الدولة بها، يكشف شاكر أنه سبق ووعد المتنبي بتزويجه أخته، إلا أنه لم يف بوعده "وكان ذلك سراً بينهما" كما يقول، مؤكداً أن العلاقة بين المتنبي وخولة ووعد سيف الدولة بتزويجهما، كان "سبباً في العداوة الباغية" ما بين المتنبي والشاعر المشهور والقريب لسيف الدولة أبي فراس الحمداني، صاحب قصيدة "أراك عصيَّ الدمع" ذائعة الصيت.
يذكر أن خولة دفنت في منطقة "ميافارقين" التي كانت تحت سلطة الدولة العربية في ذلك الوقت، وهي الآن جزء من منطقة "ديار بكر" التي أصبحت جزءاً من أراضي الدولة التركية. وبحسب إخباريين مسلمين، توصف خولة بأنها "كانت صاحبة حشمة وحرمة" وقد "حُمل تابوتها إلى ميافارقين" وهو المكان الذي دفن فيه أخوها سيف الدولة بعدما أصيب بمرض الفالج، وأعلنت وفاته بعد وفاة أخته خولة، بأربع سنين، سنة 356هـ.