يبدو جلياً أن المخرج السعودي محمود صباغ يسعى في تحقيق أفلام نابعة من بيئته ذات الثقافة والموروث الاجتماعي والعادات التي طالما كتب عنها مقالاته التي تفكك خصائصها. فهو ينظر إليها بعين الفنان المتأمل والناقد المتسائل الذي قد يتفق مع بعضها، ويدعو إلى نبذ بعضها الآخر وتحرير المجتمع منها.
هكذا يقف صباغ بين المتأمل الدارس والرافض، ويقدِّم سينماه بأسلوبه الواقع بين التجريب الحديث والكلاسيكية المرسخة في تجارب الآخرين، أسلوب له معالمه الفنية التي يشتغل عليها بحرفية لا تقبل المساومة في توظيف عناصرها؛ لكنه قد يزل في شاردة هنا أو واردة هناك.
بعد فلمه الأول "بركة يقابل بركة" الذي حققه في 2016م، وطرح فيه شيئاً من نظرته الواقعية الساخرة والسوداء التي تمس طموح الشباب وتبرّمهم من واقعهم الحياتي، يعود محمود صباغ في فلمه الثاني الطويل (135 دقيقة): "عمرة والعرس الثاني"، ليقف مع المرأة، ويحاكم سلوك المجتمع تجاهها، من دون شعارات أو بناء درامي يجعل منها بطلة نضال اجتماعي، أو يلبسها ثوب الشخصية الأسطورية، إنما يقدِّمها كضحية مغلوبة على أمرها.
في فلمـه هذا، كما السابـق، يعتمد محمود صبــاغ على إمكانات محلية، وعلى فنيين عـرب، مثل المصريين فيكتور كريدي، عماد ماهر، وتامر كروان، فضــلاً عن مهنـدس الديكُـور الأردنـي إبراهيـم خورمة، وهو بذلك يؤسس لسينما سعوديــة غير مرتكزة على إمكانات الفنيين الأمريكيين أو الأوروبيين، الذين درجت الاستعانة بهم في بعض الأفلام السعودية والخليجية.
سيدة مستغلة في وسط ذكوري
يروي فِلْم "عمرة والعرس الثاني"، قصة "عَمّرة" تلك السيدة الأربعينية، الباحثة عن أمان المستقبل، وسط استغلال الجميع لها، فتواجه مجتمعاً نسائياً مشكّلاً من ساكنات المجمّع المخصص لعائلات العاملين في محطة لتكرير النفط. وعلى خلفيات السطوة الذكورية، تتكوَّن تلك الخصائص النسوية البالية، والتي يريد المخرج تعريتها ومناهضتها ضمن الأفكار التي يتقصد الفِلْم السخرية منها، ومن ثم حث المشاهد للتفكير فيها بهدف رفضها وإزالتها من الواقع الاجتماعي.
في هذا المجمّع السكني يجد المشاهد نفسه أمام شخصيات نسائية متأزمة، عصابية.. نساء خائفات من زواج أزواجهن عليهن، لذا يُرِدنَ من عَمْرة أن تفتديهن وتقدِّم زوجها لـ"عشتار"، الفتاة الجميلة.
هكذا، تقف النسوة موقف العداء من عَمْرة ويلقين عليها لوماً ثقيلاً، لعدم خضوعها ومباركتها لعُرس زوجها الثاني، وكل واحدة منهن تريد أن تزيل خطر زواج زوجها من عشتار، ومن ثم يُمعِنّ في تعنيفها واستغلالها، وهي لا هاجس لها سوى حماية نفسها من الزوجة الثانية، ومن ثم الحفاظ على بيتها وبناتها. ولهذا تدير مجموعة الناقمات حولها بتدابيرها الخاصة، وبكتم الضغينة عليهن.
شخصية ضعيفة وقوية في آن
عمرة شخصية حيوية لعبت دورها الشيماء طيب التي لم تمثل من قبل، وبرعت في أدائها لتجعل موهبتها تضاهي الممثلات المحترفات.
تأخذنا مجريات الفلم، ونجد "عَمْرة" قوية لا تستسلم للضغوط التي تواجهها من والدة زوجها سعدية "خيرية نظمي" في تزويج ابنها بأخرى لتُنجب له الذكور؛ وأيضاً في تعاملها الشرس لإخراج والدتها نفيسة من المنزل. ولهذا تسعى إلى حل أزمتها بكل الطرق الممكنة، تارة بالصلاة والدعاء، وتارة باللجوء إلى الشعوذة، وأخرى إلى استشارات خبيرة تنمية الذات، وتعاملها مع جمعيات الإرشاد النسائي، وأخيراً تلجأ إلى السحر الأسود… إلاّ أنّ كل هذا التوتر المحموم الذي تبدو عليه عَمْرة بحنكتها ورباطة جأشها، يحيل إلى قوتها وضعفها في آن، ويكشف عن حقد انتقامي يعتمر في داخلها ولا تجد له منفذاً سوى إشعال النار في الجميع.. وهنا يذكرنا المخرج بحادثة السيدة التي أحرقت خيمة عُرس زوجها ومن فيها من المدعوين.
ويصوِّر الفلم لنا أيضاً الأجيال الجديدة ممثلة في بنات عمرة، الكبرى التي تحمل سخطاً كبيراً على مؤسسة الزواج، والابنة الوسطى التي تستسلم لإغراءات الإدمان والحياة الهمجية المنفتحة بلا وازع، وهناك الابنة الصغرى التي تنشغل بالموسيقى وتجيد العرف على البيانو. عائلة مفككة بعيدة عن المبادئ القويمة، وأم تحاول المقاومة للمحافظة على هذا المنزل المرتبك. وفي المقابل زوج غائب، ولكنه حاضر بسطوته وبمكانته الوجدانية التي أسسها له مجتمعه. وثَمَّةَ علاقة عاطفية محتملة تتعرَّض لها عمرة، مع أحد السكان من الجيران، ولأنها رافضة لكل أشكال الوهن الذي تتعرَّض له أسرتها، ترفض الانخراط في هذه العلاقة المنحرفة.
نهاية ومشاهد آسرة
لا يمكن تجاوز اللغة الإيحائية في الفلم، والتي تفصح من دون ثرثرة.. الصورة ولغة الأجساد والإشارات ودلالات الأغنيات.. إشارات الحب في لقطات ساحرة في جماليتها: الشاب المستهتر "داحم" يتخيل رفيقته "حميدة" بينما تنساب أغنية خالد عبدالرحمن (خذني بقايا جروح أرجوك داويني)، وقبلها تلميحات لشعور خفي يراود الجار ولا تغفلـه عَمْرة، لينساب صوت طلال مـداح (خـذاك الموعـد الثانـي)، ثم دلالات النار، المشتعلة في حقول النفط، وفي مطبخ عَمْرة، تمهيداً لما سيأتي، ومشهد حوار عَمْرة وصديقتها سارة في المسبح.
غير أن الاعتماد على طاقم ممثلين من دون تجارب أدائية درامية سابقة، عدا الممثلة سناء يونس الضيفة على الفلم، يعني تكبّد مشقة التدريب للخروج بأفضل أداء ممكن. فيما تتجلى حرفية توظيف المؤثرات الصوتية الطبيعية والموسيقية، علاوة على التحكم في إيقاع السرد الذي يخلق حالة ديناميكية تبعد المشاهد عن الملل. في حين تأتي عملية تقطيع المشاهد وانتقالاتها في وتيرة متزامنة مع زوايا التقاط الكاميرا، وتضفي بعداً مشوّقاً وجمالياً، كما هو الحال في التكوينات البصرية للكوادر الواسعـة والبعيـدة، للجبال والبحر، أو للبيوت في المجمـع السكنـي، وأيضاً تلك التي ظهرت منذ أول مشاهد الفلم، وتصور جِمالاً تسير في صحراء وخلفها مصانع تكرير النفط وأعمدة الكهرباء، بما يوحي بامتزاج البيئة الصحراوية بالبيئة الحضرية.
يتسارع الإيقاع في الجزء الأخير من الفلم، ويصل التصعيد الدرامي إلى ذروته. انتقام عمرة من عشتار. مشاهد متلاحقة ونهايات صادمة، في حين يأتي المشهدان الأخيران هادئين عميقين .إنه انتصار البنت الصغرى جميلة، وفوزها بجائزة العزف الموسيقي، الانتصار الذي طمأن قلب الأم، والذي سيقود الاثنتين إلى عالم جديد مليء بالحياة الجميلة.
——————————————————
محمود صباغ
كاتب ومخرج ومنتج سعودي، ولد في مدينة جدة عام 1983م، ودرس السينما الوثائقية في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية. وبعد عودته إلى السعودية، صنع فِلْماً وثائقياً (قصة حمزة شحاتة) وفلماً روائياً (كاش). أما أول فِلْم روائي طويل له فكان (بركة يقابل بركة) الذي عُرض في قسم المنتدى بمهرجان برلين 2016م.
**حقوق النشر محفوظة لمجلة القافلة، أرامكو السعودية