ثَمَّة مقولة تراثية تتعلَّق بالنحو العربي وهي: (النحو علم طبخ حتى احترق). وهذه المقولة تحبط كل ذي همَّة طموح، وتحول بينه وبين الإضافة أو التعديل في قواعد النحو، على الرغم من أن عَوَارَ المقولة يتبدّى جلياً لكل من يتأملها بعمق، فهي تدعو للجمود، في أمرٍ أهم سماته الحركة، والجِدَّةِ، والتطور، وهو (اللغة)، ذلك المنتج الإنساني.
لا بد لأي لغة ترنو إلى البقاء من قبول السُنَنِ، والأخذ بما يقتضيه ذلك، ومنه مُطْوَاعِيَة نحوها وصرفها، معجمها وأساليبها التعبيرية والبيانية لتقبل متغيرات قواعدية وصرفية، أو مُكَيَفة؛ وفقاً للصيرورة الزمانية والمكانية، وتجاوباً مع التلاقح اللغوي، وهو جزء من التلاقح الحضاري الإنساني.
إن الإيمان بتلك المقولة قد أَضَّرَ كثيراً بلغة الضاد في مجالات شتى، ومنها أنه حال بينها وبين التطور والتطويع للمعالجة الحاسوبية؛ كالتشكيل الآلي الذي يُعَدُّ لبنة أساس لأي معالجات لغوية أخرى، كما إنه بسبب تلك المقولة وغيرها، حُرِمَت العربية من استثمار الكنوز التقنية كما ينبغي؛ فهناك دراسات جادة قام بها كثيرون في هذا الصدد، لم تحقِّق من طموح القائمين عليها إلا القليل، ومنها التي قام بها الدكتور علي نبيل، وأشار إلى شيء منها في كتابيه؛ (اللغة العربية والحاسوب)، و(العرب وعصر المعلومات)، واقتبس له مقولة تعضد ما ذهبت إليه:
"ما أشد حاجتنا إزاء الانفجار المعرفي الذي نعايشه حالياً لتعزيز آليات تكوين الكلمات في العربية، ويأتي أسلوب المزج هنا كإحدى الوسائل المتاحة للدلالة على المفاهيم المركبة التي تسود معظم فروع المعرفة الحديثة، وفي هذا الصدد أطالب بإعادة اكتشاف صيغة الأصـل الرباعي (مثل: فعلل وتفعلل وفعللة، وفعلنة)، حيث تفوق هذه الصيغة الصيغ الثلاثية في قدرتهـا على نحت الصيغ المزجية".
ومن طوام تلك المقولة أيضاً انتشار وذيوع ما يطلق عليه بـ (الأخطاء الشائعة)، التي أُفْرِدَتْ لها عشرات المصنفات، ومنها كتاب (تقويم اللسانين)؛ لمحمد الهلالي، وفيه تطرَّق إلى أكثر من سبعين كلمة أو استخداماً عدّها أخطاء، وهي أخطاء إذا قيست بمعايير النحو والصرف، وما توقفت عنـده في العصر العباسي.
واستهل الهلالي كتابه بالتطرّق إلى ما سمَّاه (الكاف الاستعمارية) ومثالها: (أنا كمترجم...). والصواب هو القول (أنا مترجم...)، أو (أنا بصفتي مترجماً...)!
وكلامه هنا لا غبار عليه وفقاً لاستخدامات (كـــَ) في قواعد النحو التي عدَّت قواعد توقيفية؛ غير قابلة للإضافة أو التغيير. ولكن ما الذي يمنع أن تضاف (الكاف) الاستعمارية هذه –مع تحفظي على التسمية– إلى استخدامات الكاف المعروفة، وأي ضير ينال العربية بسبب ذلك؟
مثال آخر يعدُّه كثيرون من الأخطاء اللغوية المشهورة، وهو كلمة (اعتنق الدين الفلاني) بمعنى (أسلم) أو (تنصر)، ونحو ذلك، ويرى العلماء أن (اعتنق) خطأ، ولا يجوز استعمالها مع (الدين).
والسؤال: لماذا لا يضاف هذا الاستخدام للغة الضاد؟ ويستبعد من قائمة الأخطاء اللغوية؟ لا سيما وإن مفردة (اعتناق) لها دلالات وحمولات تصلح وصفاً لحالة الدين حينما يــ (عتنق).
والأمر ينطبق على كثير مما عُدَّ أخطاء، بينما أرى وغيري فيها مجالات خصبة يمكن استثمارها، وتوظيفها لإثراء لغة الضاد، ومعجمها العظيم، وبذلك نمدُّ من أفاقها إلى مزيد من الرحابة، ولا نضيق على مستخدميها واسعاً.
وليكن محفزنا في ذلك أن لغة الضاد محفوظة مصونة بفضل اعتمادها على مرجعية راسخة هي القرآن الكريم، الذي سيبقى خالداً بين يدي الإنسانية إلى أن تقوم الساعة، ولهذا ليس هناك خوف من تأثرها سلباً بأي إضافات قاعدية أو صرفية أو معجمية محكمةٍ يقوم بها الراسخون في اللغة، وتقرها مجامع لغوية معتبرة.
إن العربية التي وثقت سجل حياة الجاهليين بكل دقة، وفي مختلف أحوالهم، في مجتمع أمي، قادرة اليوم على التعاطي بالقدر نفسه، وأكثر مع حياة المعاصرين، في عصر العلم والمعرفة والحوسبة التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا ورصدتها.
**حقوق النشر محفوظة لمجلة القافلة، أرامكو السعودية