يسكن "النمنم" في وجدان الحجازيين، فهو أداة الرعب الأكثر ترويعاً التي يلجأ إليه الآباء والأمهات لردع أبنائهم عن شيء معين.
- الجبل دا يسكن فيه النمنم... لا تروح هناك!
- آخر الليل يجي النمنم يلكّط أو لاد الشوارع.. لا تسهر!
وهكذا تصطك عظام الصغار عند ذكر "النمنم"، ويخلد الأطفال إلى النوم باكرا، وهم يستشعرون أمان الدار.
حين كنتُ صغيرا، كان النمنم يسكن جبل "سلع" في المدينة المنورة، مطلا على أحياء السيح وجمل الليل والعطن وباب الكومه، قريبا من منزلنا، وطالما سكن "النمنم" حسب مرويات الأهل في أماكن أخرى، في مكة المكرمة، وجدة، وعلى شاطئ ينبع، وفي جبال الطائف، على امتداد مدن الحجاز، حسب موقع العائلة التي تريد ترويض جموح الفتية، وإبقائهم في المنزل ليلا، وكان على الدوام مرعبا ورادعا.
من هو "النمنم"؟
"النمنم" حسب قصص الجدات والأهل، شخصية الرعب الأخطر، وهو يظهر بين آونة وأخرى، آكل لحوم بشرية من طراز رفيع، يمتلك أسنانا بارزة كأسنان الفيل، وله ذيل يتدلّى من مؤخرته، وأحيانا تكون له أيضا يدٌ يغطيها الشعر، شبيهة برِجل التيس أو قدم الحمار، أما ملامحه فهي مختلف حولها أيضا، فهي حسبما يكون أكبر إثارة لرعب أطفال العائلة، وهو بالإجمال يشبه أكثر سكان الأرض بشاعة، وأحيانا حين يتدخّل "الحكواتية" المرعبون، يكون بملامح عادية، يظهر وجهه الحقيقي وقت تنفيذ الجريمة فقط، وذلك ما يثير الرعب، فهو قد يكون صاحب البقالة، وقد يكون سائقا، أو أي شخص غريب، أو حتى.. من المحتمل أن يكون شخصا يسكن معك في المنزل!
دوافع ومخاطر
يستخدم الحجازيون أسطورة "النمنم" كما هو واضح، لإحكام السيطرة على شغب الأطفال، والدوافع تكون غالبا حسنة النية، فالأهل يحاولون من خلاله ثنيَ الأطفال عن التسكّع في الشوارع، أو السّهر خارج المنزل، وأحيانا يستخدمونه لبث الدفء في حكايات السمَر، حين تكون الليالي حالكة، وطلبات الأطفال الشجعان تتوالى: (احكي لنا قصة "النمنم").
ورغم هذه الاستخدامات التراثية، إلا أن بعض المختصين النفسيين، يحذّرون من الإفراط في ترويع الأطفال، من خلال قصص "النمنم" والقصص المرعبة الأخرى، فهي تجعلهم عرضة للإصابة بأمراض نفسية كثيرة، إضافة إلى تحفيز الكوابيس المرعبة أثناء نومهم؛ وبين دوافع الأهل، وتحذيرات المختصّين النفسيين، لا توجد ضوابط لسريان قصّة "النمنم" بين الأطفال، وتبقى خلف كل الأزمنة قصة دائمة التكرّر، وتشكّل جزءا من نوستاليجيا الحجاز الخاصة، فهي تبعث على الحنين إلى زمن القصص المنزلية، والأساطير التي تعمر وجدان سكان المنطقة، ورغم الحداثة والتطوّر الهائل، داخل المجتمع السعودي عامة، والحجازي بشكل خاص، فما زال بعض الناس ينظر بظرافة إلى أسطورة "النمنم"، التي تشكّل بنظرهم المعادل لـ "ريزدنت إيفل" عند أطفال الألفية الجديدة، وقد تجسّدت هذه الشخصية في المسرح السعودي، من خلال أعمال جميلة، كما تسرّبت إلى الرواية والشعر، فـ"النّمنم" يكفّر أحيانا عن خطاياه، حين يسمح للمبدعين باستخدامه في أعمالهم.
متى ظهر "النّمنم" آخر مرة؟
يتجلّى "النمنم" كل حين، حسب المهتمين بقصصه، و لـ"النمنم" متابعون شغوفون بأخباره، وهناك من يحفظ مرّات ظهوره في كل حارة، وفي كل مدينة من مدن الحجاز هناك من رآه عيانا، بل إنّ بعض "الحكواتية" يزعم أنه دخل مع "النمنم" في حوار طويل، لكنّ أحدا لم يسأله عن سبب ولعه بترويع الصغار، أو يستطلع موقفه من السمعة السيئة التي أُلصقت به!
وحسب أحد التجليات شبه الموثّقة "للنمنم"، يقول أحد الرواة نقلا عن الفنانة الشهيرة "توحة"، إنه أثناء حفل زفاف في مدينة جدة عام 1981، وأثناء تأدية الفنانة لأحد مقاطعها الغنائية، دخلت امرأة وشرعت في الرقص على أنغام "توحة"، وسرعان ما لاحظت الفنانة أن المرأة تخطو بشكل غريب، والخطو هو سرّ الرقص الأزلي، فأمعنت الفنانة النظر، فإذا بقدمي المرأة يشبهان قدم الحمار، ظنّت توحة أن المرأة مصابة بمرض ما شوّه قدمها، غير أن القاعة سرعان ما امتلأت بالنساء الراقصات على أرجل الحمير، فهرعت الفنانة خارج القاعة، وأوقفت "تاكسي أصفر" -لون التاكسي القديم- وقصّت على السائق قصة الأرجل، فأخرج السائق رجله وكانت رجل حمار أيضا، وسألها: (زي دي؟)
هذه إحدى القصص الخرافية، منسوبة إلى الفنانة "توحة"، وإن كانت القصة من صنع وجدان "الحكواتية"، وغير صحيحة، إلا أن الفنانة "توحة" شخصية حقيقية شهيرة، ولدت سنة 1934 في الأحساء، واشتهرت في مدينة جدة، وغنّت لكبار الملحنين، مثل طارق عبد الحكيم، وسامي إحسان، وهي من الجيل الأول من فنانات الحجاز، وتعتبر مع الفنانة ابتسام لطفي، أشهر فنانتين شعبيتين في الحجاز، ولكن من غير الثابت أنها روت هذه القصة الطريفة لأحد.