علماء اللغة وروّاد التصنيف العربي القديم، حظوا بشهرة واسعة، حققوها بسبب ما تركوه من آثار جليلة في تاريخ اللغة العربية، وبسبب انصرافهم التام لوضع المصنفات والكتب التي أصبحت فيما بعد أساس آداب العربية ونحوها مع ما يشتمله هذا من ضوابط الشعر ومعايير هذا الفن الأرفع قيمة في تاريخ العرب القديم.
إلا أن هذه الشهرة، أخفت وجهاً مأساوياً لهؤلاء المصنفين الكبار، إذ انتهت حياة بعضهم بأغرب الطرق، فمنهم من مات لمجرد تناوله فاكهة، ومنهم من مات لخطأ كارثي في علاجه، ومنهم من مات لسقوطه في حفرة معدة لاصطياد الأسود، ومنهم من مات إثر تناوله طعاماً، ومنهم من مات لسقوط رجله في ثغرة على سقف، فسقط وقضى في حينه.
مثل هؤلاء، صرفوا كل وقتهم تأليفا وتصنيفا، إلا أن الأقدار أنهت حياة بعضهم، بطرق غريبة، لتكون نهاية حياتهم، صورة عن المشقة التي كانوا يتنكبونها في ساعات عمرهم التي ذهبت كلها في جمع اللغة وآدابها ونحوها أو شعرها.
نهاية واضع أول معجمات العربية
ولعل وفاة واضع أول قواميس العربية، ما يعرف بكتاب العين، وهو الفراهيدي، الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الأزدي (100-170) للهجرة، وكذلك واضع علم العَروض وبحور الشعر، تكون صورة قاسية عن مدى انشغال هذا اللغوي بموضوعه حدّ الاستغراق وعدم الانتباه، إذ مات الفراهيدي، بعد أن صدمته (سارية) في الطريق، ويقال إنه كان يقطّع بحراً من العروض، وفق ما نقله مترجمون كثر، كابن خلكان في وفيات الأعيان.
ولم يكن الفراهيدي وحده، في الموت عن طريق الصدم في الطريق، فقد مات مثله أحد علماء العربية الكبار، المعروف بثعلب، أحمد بن يحيى بن زيد، (200-291) للهجرة، ويعتبر إمام الكوفيين في اللغة العربية، ومن أشهر المنقول عنه ما يعرف بـ(فصيح ثعلب) و(مجالس ثعلب)، ولا يخلو كتاب موضوع في العربية القديمة من استشهاد أو اقتباس من أقواله، ويعتبر حجة في العربية.
حفرة أعدّت لاصطياد الأسود فقتلت شاعراً!
ولقد كان ثعلب في الطريق، فصدمته فرسٌ فأوقعته في حفرة لم يخرج منها إلا ميتاً على الفور، وأنهت حياة هذا اللغوي البارز، بمجرد اصطدام عابر إلا أنه قاس وحاسم.
السقوط في حفرة، لسبب ما، ومؤداه موت الواقع فيها، كان من نصيب كاتب وشاعر وصف بأحد نجباء شعراء عصره، المعروف بـ(صرّدر) وهو علي بن الحسن بن الفضل والمتوفى سنة 465 للهجرة، حيث كان الناس قد أعدوا حفرة في طريق، قصد منها اصطياد الأُسود، إلا أن الشاعر المذكور، هو الذي وقع فيها، فمات على الفور، دون أن تشير المصادر التي ترجمت له، سبب موته بسقوطه في الحفرة المذكورة، بسبب عمقها أم بسبب شيء ما داخلها.
والسقوط المتكرر الذي أنهى حياة البعض، سنراه يتكرر في القرن الخامس للهجرة، حيث أنهى حياة نحوي بارز يعتبره المصنفون، إمام عصره في علم النحو، وهو المعروف بابن بابشاذ النحوي، طاهر بن أحمد، المتوفى سنة 469 للهجرة، وله كتاب (المقدمة) و(شرح الجمل) للزجاحي، وله مصنف ضخم في النحو قيل إنه بلغ 15 مجلداً ثم قام بعض تلامذته بإكمالها على التوالي.
ومات ابن بابشاذ، لمّا خرج من غرفته إلى سطح مسجد، فزلّت رِجْله من "بعض الطاقات المؤدية للضوء" فسقط ومات. برواية (وفيات الأعيان).
أكل "الهريسة" فمات!
علماء كبار آخرون، لم يموتوا بسبب سقوط في حفرة أو من على سطح، بل لمجرد تناولهم طعاماً ولم يعرف الكيفية التي أدى بها إلى موتهم، إلا أن الروايات تتحدث عن أنهم تناولوا هذا الطعام، ثم ماتوا. كابن قتيبة، عبد الله بن مسلم الدينوري المصنف الشهير والمتوفى سنة 270 للهجرة، وله (عيون الأخبار) و(كتاب المعارف) و(أدب الكتاب) ومصنفات أخرى كثيرة.
توجد روايتان لموت ابن قتيبة، ذكرت في (تاريخ مدينة السلام) المعروف بتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، الأولى تقول إنه صاح صيحة سُمعت من بُعد، ثم أغمي عليه، فمات. أما الثانية والتي يجمع ليها أغلب المصنفين، فهي أنه مات بعدما "أكل هريسة" فدبت فيه حرارة، ثم صاح صيحة شديدة، ثم أغمي عليه، ثم اضطرب، ثم هدأ، ثم مات.
وهذا قتله الموز!
الطعام أدى لموت لغوي بارز، أيضا، هو أبو عبيدة معمر بن المثنى، المتوفى سنة 209 للهجرة، ويوصف بالعلاّمة وهو راوية ولغوي، ومات الرجل بعدما تناول موزاً، ولم يعرف إن كان في الموز ما دُسّ قصداً، إلا أنه مات بعد تناوله. ويروي الإخباريون العرب أن أبا العتاهية رفض تناول الموز من الشخص الذي سبق وقدّمه لأبي عبيدة فمات منه، وقال له: "ما هذا يا أبا جعفر، قتلت أبا عبيدة بالموز، وتريد أن تقتلني به؟"، وفق رواية الخطيب البغدادي في تاريخه.
ومن علماء العربية، من مات بيده، وقيل إنه "أصيب بوسوسة" وهو الجوهري، إسماعيل بن حماد، والمتوفى في حدود نهاية القرن الرابع الهجري، وصاحب المعجم الشهير (الصحاح-تاج اللغة وصحاح العربية)، إذ مات الرجل بعدما حاول الطيران بجناحين، كالطيور، وفعل وأعد ما لزم لتلك المحاولة المميتة، وصعد إلى سطح أحد المساجد، وجرّب الطيران وطار، فسقط ومات على الفور.
ظنوا أنه يسحر النهر فرموه فيه فمات!
وهناك نهايات غير متوقعة تفاجئ دارس تاريخ آداب العربية، عندما يتم إنهاء حياة لغوي بارز، بسبب لبس وقع أو وهم يصاب فيه واحد من عوام الناس، حيث انتهت حياة اللغوي الكبير والنحوي العلامة المعروف بـابن النحاس، أحمد بن محمد بن إسماعيل، المتوفى سنة 338 للهجرة، والذي ترك للعربية كتباً غاية في الأهمية، منها كتابه المعروف بـ(التفاحة في النحو) وهو أحد أهم وأمتع الكتب التي وضعت في النحو، لما فيه من سهولة ويسر وتبسيط، وللرجل باعٌ في علم العروض، إلا أنه أدى لموته.
وتقول رواية وفاة ابن النحاس، إنه كان جالساً على طرف النهر يقطّع بحراً شعرياً من كتاب العروض، فلمّا سمعه "بعض العوام" اعتقد أنه "يسحر النهر" فقام بدفعه برجله إلى الماء "فذهب في المدّ، ولم يوقف له على خبر" بعد ذلك. ويبدو من هذه الرواية أن النحوي الكبير لم يكن يجيد السباحة، إلا أن من أسقطه في الماء ظنا منه أنه يسحر النهر، كان يجهل العربية وتقطيع بحور الشعر في العروض.
شفط شيئا من مخّه فمات!
ميتة مؤلمة لشاعر كبير، تسبب بها علاجٌ خاطئ وعنيف أدى لوفاته. الشاعر هو يحيى بن نزار بن سعيد المعروف بأبي الفضل المنبجي، المتوفى سنة 554 للهجرة، وتقول رواية وفاته التي يسردها ابن خلكان في وفياته، إنه أحسّ بثقل ما في أذنه، فطلب من أحد الأشخاص أن ينظر ما فيها ويخرجه. وتقول الرواية إن هذا الرجل قد قام باستخراج ما هو موجود في أذن المنبجي، إلا أنه من ضمن ما استخرجه منها، بطريق الخطأ بسبب شدة الشفط، هو "شيء من مخّه!" أي أن الرجل شفط مادة دماغه من أذنه، فمات المنبجي لهذا السبب.