قد يتوقف القارئ، قليلاً أو كثيراً، عند ورود كلمة (الجاسوس) على عنوان كتاب معني باللغة العربية ومفرداتها، بل قد يصاب بنوع من الريبة لورود مثل تلك الكلمة في عنوان مصنف، غير معني إلا بالعربية.
والجاسوس وردت في عنوان المصنف اللغوي المعروف بـ(الجاسوس على القاموس) لمؤلفه العلاّمة اللغوي اللبناني والمؤلف النهضوي أحمد فارس الشدياق (1219-1304) للهجرة. والمُتجَسّس عليه، وهو القاموس، يقصد به القاموس المحيط لصاحبه الفيروز آبادي المتوفى سنة 817 للهجرة.
وعلى الرغم من أن كلمة (جاسوس) كانت وردت في زمان الشدياق، واكتمل معناها بأنها من فعل التجسس، إلا أنه اختارها في عنوان مصنفه، غير آبه بأي معنى يختلط على القارئ، متكئاً على تبحّره اللغوي الواسع، والذي وصل به، حد انتقاد الفيروز آبادي والكشف عن عيوب كتابه الذي هو من أمّهات العربية، القاموس المحيط.
لم تجسس الشدياق على الفيروز آبادي؟
صاحب القاموس
جاسوس الشدياق، كان عبارة عن مستكشف يتسقط الأخبار اللغوية القاموسية التي تثبت للمصنف، بأن صاحب القاموس قد أخطأ هنا أو هناك، أو خالف أئمة اللغة، هنا أو هناك، أو سواها من "عيوب" رآها الشدياق بالقاموس المحيط.
لكن ما الذي في كلمة (الجاسوس) سهّل على الشدياق وضعها في عنوان مصنفه، دون أن يخشى لومة لائم من اختلاط الأمر على القراء ودب الريبة في نفوسهم؟
اتكأ الشدياق، على معان أساسية، في كلمة الجسّ التي جاءت منها الجاسوس، وهو اللغوي المتبحّر الذي تنكّب عناء مهمة شاقة محفوفة بمخاطر من كل جانب، وهي انتقاد أحد أشهر واضعي أمهات العربية، وهو الفيروز آبادي. على الرغم من أنه ليس الأول في هذا الباب، لكنه الأحدث بين جميع منتقديه، وآخرهم، بالقياس إلى مستوى الشدياق المفصلي في تاريخ العربية الحديث.
القاموس المحيط ذاته، يقول إن الجَسّ هو المَسُّ باليد. ويقول إن الجسّ هو تفحّص الأخبار، كالتجسّس، ومنه الجاسوسُ، والجسيسُ "لصاحب سرّ الشرّ"، يقول المحيط الذي يورد تعبير "جسّه بعينه، أحَدَّ النظرَ إليه ليستثبت".
مزيج التفحّص والتدقيق، الذي يبدو في سرد الآبادي لمعنى الجسّ والجاسوس، سيكون مستقى من أقدم قواميس العربية، كتاب العين، للفراهيدي (100-175) للهجرة، فيقول: جسستُه بيدي، أي لمسته لأنظر مجسَّه أي ملمسه". ويضيف: والجَسُّ، جسّ الخبر، ومنه التجسس للجاسوس".
ويقدّم أقدم معجمات العربية، معلومة للجميع تفيد بأن ما نسمّيه الحواس، يسمّى أيضا "الجواس". إذ "الجواس" منوطة بوظيفة تعرف وإدراك وتفحص للعالم الخارجي: "والجواس من الإنسان، اليدان والعينان والفم والشم، والواحدةُ جاسّة، ويقال بالحاء".
تكتمل صورة جاسوس الشدياق، شيئا فشيئا، فمن تفحص الأخبار والتدقيق بالشخص، إلى كونه أداة التعرف والمس، كاليد والعين، كما قال أقدم معجمات العربية، إلى البحث عن "بواطن الأمور" كما يقول الزبيدي (1145-1205) للهجرة، في تاج العروس، والذي يقول أيضاً، إن من معاني التجسس "البحث عن العورات (العيوب)".
ومن المعاني التي ستساهم برسم صورة أكثر دقة لجاسوس الشدياق، ترد بالنقل في التاج، إذ يظهر أن التجسس يفيد بمعنى البحث: "تجسّستُ فلاناً، ومن فلان، بحثتُ عنه، (وتلفَظ الكلمة كما تلفظ) كَتحَسَّستُ". ونقل بحثاً آخر في التجسس: "وقيل التجسس البحث عن العورات (العيوب)".
أجزاء بسيطة لا تزال خافية لتكتمل ملامح الجاسوس المذكور، تظهر في لسان العرب لابن منظور (630-711) للهجرة.
يجمع ابن منظور بين معنى "البحث" و"الفحص" و"التفتيش عن بواطن الأمور، وأكثر ما يقال في الشرّ" و"نقل الأخبار"، في معنى كلمة التجسس، إلا أنه يضيف أن التجسّس والتحسّس "بمعنى واحد!" وليس غريبا ما أورده ابن منظور، خاصة وأن الفراهيدي كان سمّى "الحاسة" بـ"الجاسّة" وبالتالي الجس والحس، واحد بطبيعة الحال.
ما هي العيوب التي كشفها الجاسوس؟
بدمج جميع عناصر الصورة المكونة لجاسوس الشدياق، فإن جاسوسه كان باحثاً يتفحص الخبر ويجمعه ويأتي به، وهو كان يتجسس ويفتش عن بواطن الأمور للكشف عن "عورات" القاموس المحيط، كما يراها هو وبحسب ما يعلنه جهارا، إذ يصف "تعاريف القاموس" بالقصور والإبهام والإيجاز والإيهام. حسب قول الشدياق في مقدمة الجاسوس، والذي ينتقد الآبادي ذاته: "وخصوصا كتاب القاموس الذي عليه اليوم المعول، فإن مؤلفه رحمه الله التزم فيه الإيجاز، حتى جعله ضربا من الألغاز!".
بل يقول إن أنواع "الخلل" في القاموس، كثيرة، وما لدى الشدياق من اعتراض على "عجمة" القاموس "فإنه أكثر من أن يحصر، وأوفر من أن ينشر!".
لذلك تم تبويب كتاب الجاسوس على القاموس، بالكشف "عن عيوب" الأخير علناً، من مثل: "في إيهام عبارة القاموس ومجازفتها" و"قصور عبارة المصنف وإبهامها وغموضها وعجمتها" و"فيما ذكره من قبيل الفضول والحشو والمبالغة واللغو!" و"خلطه الفصيح بالضعيف" و"فيما وهم فيه لخروجه عن اللغة!" و "في غلطه في تذكير المؤنث وتأنيث المذكر".
يشار إلى أن الجاسوس على القاموس، وضع للكشف عن "عيوب" يراها الشدياق في القاموس المحيط، وهو مؤلف لإثبات ما يراه قصورا وحشوا وغلطا وخلطا وخروجا، في هذا المعجم الشهير، ومن هنا أطلق الشدياق اسم (الجاسوس) على كتابه، لتجمع بين البحث والفحص في أمر، والكشف عن عيوبه، ثم جمع ما تيسّر عنه، ثم نقلها، إلى طرف ثالث، وهو القرّاء. وبهذا المعنى يكون الشدياق، أول من ألحق اسم الجاسوس بالناقد، لأعمال الفحص والتحري والكشف عن العيوب، التي تجمع بين الاثنين.