هل يصلح الشعر دواء؟ القصيدة التي أنقذت ابن الرومي

هل يصلح الشعر دواء؟ القصيدة التي أنقذت ابن الرومي
هل يصلح الشعر دواء؟ القصيدة التي أنقذت ابن الرومي

كان الشاعر ابن الرومي، وهو علي بن العباس بن جريج، 221-283 للهجرة، يعاني من تطيُّر لازمه أغلب أيامه، وكان يتشاءم لأي شيء يراه أو يقع أمامه. ووفقاً لجميع المصادر التاريخية التي تناولت أدبه وترجمت له، فإنه كان يعاني من الطّيرة إلى الحد الذي كان يلزم فيه داره ولا يغادره، خوفاً أو تشاؤماً، عدة أيام متوالية.

وصار تطيّر ابن الرومي، ملازماً لشعره، وأصبح من سماته الأساسية التي لا يغفلها أي مترجم أو مصنف، ذلك أن الرجل كان واقعاً تحت ضغط تطيُّره وخوفه وهلعه من أي شيء يمكن أن يزرع في قلبه اضطراباً وفي روحه تشاؤماً، عزاه البعض، إلى ما عاناه ابن الرومي من فقد لأسرته، بموت معظم أولاده، وإحدى زوجتيه، ووفاة أمه، تبعاً لما ذكره المحقق العلامة اللبناني عمر فروخ (1906-1987) للميلاد، في مصنفه الكبير (تاريخ الأدب العربي).

ولم يكن التطيّر يفتك بابن الرومي، وحده، بل بمن حوله أيضاً. وورد في (جمع الجواهر في الملح والنوادر) للحصري القيرواني، إبراهيم بن علي، المتوفى سنة 453 للهجرة، أن تطيّر ابن الرومي، أودى بحياة أشخاص، إذ أقفل الباب على نفسه وعلى خدمه، مدة ثلاثة أيام، فمات بعض قاطني الدار عطشاً "بسبب طيرة ابن الرومي" كما يقول الحصري القيرواني.

وكان ابن الرومي يتطيّر من جار له، فإذا رآه، ولو من ثقب الباب، فلا يخرج من بيته، ثم يخلع ثيابه التي كان ارتداها منذ لحظات. ويبدو في شعره مدركاً لما فيه من تطيّر فيقول في قصيدة:

ومن نكبة لاقيتها بعد نكبة
رهبت اعتساف الأرض ذات المناكبِ
فما زلت في خوفٍ وجوعٍ ووحشةٍ
وفي سهر يستغرق الليل واصبِ
يؤرقني سقفٌ كأني تحته
من الوكف تحت المدجنات الهواضبِ
وما زال يبغيني الحتوف مواربا
يحوم على قتلي وغير مواربِ
فطوراً يغاديني بلصٍّ مصلّت
وطوراً يمسيني بورد المشاربِ

وهي أبيات تظهر حدة معاناة ابن الرومي وتطيّره ورهابه، من قصيدة طويلة تصلح لتكون تشخيصاً لمصطلح الرهاب الوارد في الطب النفسي، خاصة في التهيؤات التي يصورها الشاعر بدقة شديدة.

واللهِ ما تطيَّرتُ بعد هذا

واشتهر ابن الرومي، بتطيره، كما اشتهر بهجائه وشاعريته، إلا أن أبياتاً شعرية سمعها من أحد الأشخاص، كانت كفيلة بإنقاذه من معاناته من التطير. وحسب رواية جاءت في عدد من مصنفات التراجم العربية الرفيعة، كمعجم الأدباء لياقوت الحموي، فإن "برذعة الموسوس" وهو من مشاهير الشعراء الموسوسين، في المصنفات العربية، قد لفت انتباهه أمر حصل مع ابن الرومي، دون أن يعرف هويته بادئ الأمر، وهو عندما تعثّر ابن الرومي وسقط أرضاً، ولما سئل عن سبب عثرته، فأجاب، ففهم برذعة الموسوس، أن ابن الرومي متطيّر فقال: "وشيخنا، يتطيَّر؟" فقيل له: "نعم، ويُفرِط" فسأل: "ومن هو؟" فقيل: "أبو الحسن ابن الرومي" فقال: "الشاعر؟" فقيل له: "نعم".

وتقول الرواية إن برذعة الموسوس، أقبل على ابن الرومي بقصيدة عن ما فيه من معاناة التطير قال فيها:

ولمّا رأيتُ الدهرَ يؤذن صرفه
بتفريق ما بيني وبين الحبائبِ
رجعتُ على نفسي فوطّنتها على
ركوب جميل الصبر عند النوائبِ
ومن صحب الدنيا على جور حكمها
فأيامه محفوفة بالمصائبِ
فخُذْ خلسةً من كل يوم تعيشه
وكن حذراً من كامنات العواقبِ
ودع عنك ذكر الفأل والزّجر واطّرح
تطيُّرَ دارٍ أو تفاؤل صاحبِ!

أما ابن الرومي، فبعدما سمع كلمات القصيدة من هذا الموسوس، وخاصة ما ورد فيها، من وجوب أن يطرح عنه التطيّر، ويقوم باستراق اللحظات الجميلة في كل يوم يعيشه، فقد "بقيَ باهتاً" ثم "حلف ابن الرومي، ألا يتطيّر أبداً!" أو "واللهِ، ما تطيّرتُ بعد هذا".

لقد أدت تلك القصيدة التي ينسبها البعض وهماً، إلى ابن الرومي نفسه، علماً أن الرواة الأصليين نقلوها على أنها لبرذعة، وأن ابن الرومي حفظها منه خاصة وأنه يطالبه فيها بترك أوهامه ووساوسه، إلى طلاق ابن الرومي، من تطيّره الذي كان يثقل كاهله ويرهق من حوله، بل أودى بحياة بعضهم عطشاً. ومع ذلك، مات الشاعر مسموماً!

ومن الجدير بالذكر، أن برذعة الموسوس، صاحب القصيدة التي أنقذت ابن الرومي من تطيره، هو شخصية تتنقل بين المصنفات القديمة، وتمتاز بالفطنة والغرابة وسرعة البديهة.

أما الوسوسة التي استمدّ منها برذعة، وسواه، لقب الموسوس، فتعني في جزء منها ما تعنيه الكلمة من معناها الظاهري المتداول الآن، إلا أن من معانيها الأساسية في الكتب العربية القديمة، هو أن الشخص المقصود بالتسمية، مختلف عن أقرانه أو خارج عن قيمهم العامة، خاصة أن أغلب من وصفوا بالموسوسين من الشعراء والأدباء حصراً، يتصفون إما ببذاءة اللسان، أو كثرة هجاء الآخرين، أو بالطرافة والظُّرف المشوب بغرابة خارجة، أو بالسلوك غير المألوف لعامة الناس.

وتتداخل كلمة الموسوسين، في المصنفات العربية، فأحياناً تأتي بمعنى المرض النفسي أو العقلي، كما يرد في (معجم الأدباء) وغيره: "رأيت بعض الموسوسين في المارستان" أي أنهم كانوا في مصحة للأمراض النفسية والعقلية، واستعملت الكلمة كمصطلح للإشارة إلى مرض، من مثل ما استعملت في ترجمة أحمد بن يحيى البلاذري: "وَسْوَسَ آخر أيامه، فشدّ في المارستان، ومات فيه".

ومن مشاهير الموسوسين، خالد بن يزيد الموسوس، المتوفى سنة 262 للهجرة، وأبو حية النميري، وهو الهيثم بن ربيع بن زرارة، وكان يقال عنه "أجنّ وأشعر الناس!" وجعيفران الموسوس، جعفر بن علي السري، من القرن الثالث الهجري، وماني الموسوس، وهو محمد بن القاسم، المتوفى سنة 244 للهجرة.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى