منذ أن بدأتُ متابعة مداولات ونوعيات الحضور في المؤتمرات السنوية التي يعقدها المنتدى الاقتصادي العالمي في منتجع دافوس، وأنا أتعامل مع هذه المؤتمرات على اعتبار أنها الترمومتر الأدق لقياس درجة صعود وهبوط أزمة الرأسمالية العالمية. تحدّث عنها بكل الوضوح الممكن الرئيس الفرنسي الذي ساوى بين الرأسمالية والعولمة حين قال إن العولمة تمر في أزمة كبرى منذ أن تسببت في إنعاش الحركات الشعبوية والنعرات القومية في القارة الأوروبية. أنعشتها في أميركا أيضاً حيث يتزعم رئيس الدولة بنفسه حركة أتت به إلى الحكم واستمرت تسانده على رغم ارتكابه عديد الأخطاء. يقول ماكرون أيضاً في معرض تعرضه بالشرح لأزمة العولمة إنها تغافلت عن الطبقات الدنيا فلم تستفد منها على عكس استفادة من أسماهم الرئيس ماكرون النجوم من أصحاب الرأسمالية وقادتها.
استطاع ماكرون ببراعة تُحسب له تقديم نفسه زعيماً للفكرة الأوروبية في انتظار مركل، شريكته المقيدة حريتها وبعض إرادتها في أزمة الحكم في ألمانيا. قال إن التوازنية الوسطية التي تؤمن بها أوروبا هي المخرج لكل مشكلات الرأسمالية المعــــاصــرة. الفــــكرة الأوروبية، في رأيه، هي الأقدر على إخراج الطبقة الوسطى من ورطتها ووقف انحسارها. وهي أيضاً الترياق الضروري لتقوية مناعة المجتمعات المتقـــدمة ضد زحف التطرف القـــومي. أراد ماكرون بحضوره المبكر وخطابه المصاغ بلهجة ملكية طمأنة رجال الأعمال، أو بمعنى أدق، كهنة المعبد وحراس المنتدى الاقتصادي العالمي، إلى أن قيادة جديدة تستعد لتولي مسؤولية وقف التشوهات في النظام الرأسمالي العالمي.
لم يدرك ماكرون وغيره من قادة أوروبا الذين توالوا على الخطابة أن رجال الأعمال على مختلف مشاربهم تحولوا في أيام قليلة من غاضبين على الرئيس ترامب إلى مؤيدين له. غضبوا عليه حين وقف إلى جانب العنصريين البيض خلال أزمة مدينة شارلوتفيل وعادوا إليه حين حقق أول وأهم إنجاز له باستصدار قانون لخفض الضرائب على الأغنياء، وهو الإنجاز الذي عجز عن تحقيقه كل رؤساء أميركا السابقين. فشل السياسيون في تلبية طلب رجال الأعمال ونجح واحد منهم. ترامب صار نموذجاً. مهم جداً أن يتنبّه رجال الأعمال في كل مكان إلى ضرورة أن يظهر بينهم، بين الحين والآخر، رجل أعمال مستعد لخوض غمار السياسة وتولي منصب الرئاسة.
من ناحيته جاء ترامب إلى دافوس ليقول كلاماً لم يكتبه وفي الغالب لم يوحِ به لمن كتبه. بشكل عام استمر الخطاب يؤكد شعار «أميركا أولاً» مع إضافة بسيطة تخفف كثيراً من الوقع السيّء للشعار في الدول الحليفة لأميركا. صار الشعار في دافوس «أميركا أولاً ولكن لتعود قوية». ترامب يقول إن أوروبا متراجعة وأميركا تستعيد قوتها. أميركا في عهده تتحسن اقتصادياً، البطالة أقل والضرائب أقل وموازنة التسلّح أكبر. أميركا تنسحب لتعود. لن يكون العالم قوياً حتى تعود إليه أميركا. ولن تعود أميركا قبل أن تتحسن شروط التجارة الدولية. لن تدخل أميركا في نشاط تجاري تعدّدي لا يسبقه تعاون ثنائي.
كانت حاضرة بكل قوتها المشكلة السكانية واختلافات الرأي والسياسات حولها. لا حديث عن مستقبل للعالم يخلو من الإشارة إلى اليابان وأوروبا كمجتمعات تشيخ، أو يخلو من الإشارة إلى أفريقيا وجنوب آسيا والشرق الأوسط كمجتمعات شبابية وكثيفة الإنجاب، أو يخلو من الإشارة إلى الهجرة من الجنوب إلى الشمال. ظهر ترامب متشفّياً حين تساءل في غير براءة إن كان هناك في المستقبل مواطن يريد أن يعيش في دولة تستقدم مليون مهاجر في سنة واحدة. إشارته واضحة وقوية المغزى إلى ألمانيا بخاصة ودول أوروبية أخرى. جدير بالذكر أنه لم يقدم اعتذاراً مقبولاً للدول الأفريقية والأميركية اللاتينية التي أساء إليها أبلغ إساءة من خلال تغريدة له. ساعده في تفادي الاعتذار القوي الترحيب الهائل الذي قوبل به في المؤتمر من جانب رجال الأعمال، الأصحاب الحقيقيين للمنتدى ومنظمي المؤتمر.
«سكان أقل» تعني يابان أضعف، و «يابان أضعف» تعني الحاجة إلى نظام أمني إقليمي جديد في شرق آسيا. «سكان شاخوا» يعني كلفة اجتماعية باهظة وتحوّلات كبرى في رؤية الشعب لنفسه وجيرانه وحاجته للأجانب. تعني أيضاً الحاجة إلى تكنولوجيا متطورة تحقّق للمجتمع ذي الغالبية من كبار السن حياة سعيدة وسهلة وخالية من المتاعب. قيل كذلك إنه يتعين على كل من المسؤولين في الصين واليابان البدء فوراً في التحضير لعلاقات تكاملية وتعاون وثيق وصداقة تحل محل العداء التاريخي المتأصل والمتواصل بين الدولتين. الخطر ماثل لو أن حكام البلدين تركوا الوضع السكاني على حاله، الصينيون يتكاثرون واليابانيون يضمحلون. كثيرون في المؤتمر وخارجه تحدّثوا عن الهجرة كقضية مرشّحة للتفاقم وتهديد الاستقرار والأمن الدوليين. آخرون، ومنهم ماكرون وترودو، وصفوا الهجرة بأنها حقيقة وليست قضية. القضية تنتظر حلاً أما الحقيقة فتبقى في حاجة لمن يديرها ويحسن التعامل معها. الهجرة حقيقة، مثلُها مثلَ هذا الغضب الشعبوي وعدم الرضاء والخوف من المستقبل. الناس تسأل ماذا يحدث لعائلتي ولوظيفتي وأولادي في ظل عولمة مترددة وفي ظل ثورة تكنولوجية لا تريد أن تهدأ أو تستقر. ترودو أطــــلق عــلى هؤلاء المتوجسين شراً من القفزات التي تحققها التكنولوجيا في المجالات كافة تعبير «البيريكاريات»، أي الواقفون على الحافة. هؤلاء وغيرهم كثيرون في أنحاء العالم كافة لا ينتبه إليهم الحكام ورجال الأعمال الذين يحجّون كل عام إلى دافوس. هؤلاء بشر لا يأتون إلى دافوس ولا يهتم بهم كهنة المعبد أو زواره من الحكام ورجال الأعمال. من هؤلاء البشر عمال الصناعة والفقراء واللاجئون والمهاجرون والنساء.
كان مودي رئيس وزراء الهند مختلفاً بعض الشيء. اختلف عن زملائه الحكام واختلف عن نفسه. جاء إلى دافوس يحمل تراث الهندوسية الثقافية علها تفيد في علاج أمراض الرأسمالية والعولمة. اعترض على عنوان المؤتمر. العنوان كان «بناء مستقبل مشترك في عالم مجزّأ» واقترح عنواناً بديلاً هو «توحيد عالم مجزأ في مستقبل مشترك». أيدته على الفور واستحسنت العنوان الجديد لإيجابيته وابتعاده عن الأنانية التي اكتسى بها العنوان الأصلي. واستطرد مودي يقول كلاماً هندياً مؤثراً. قال إن المجزّأ في عالمنا المعاصر لا يقتصر على المجتمع الدولي والدول بل يمتد إلى الإنسان الفرد. هذا الإنسان الغارق في استخدام وسائط الاتصال الاجتماعي التي ربما نجحت في جعلنا نتواصل ببعضنا بعضاً بيسر وسهولة ولكنها فشلت تماماً في تجميعنا. تركتنا نتواصل ولكن تركت كلاً منا في مكانه. السوشال ميديا أثبتت أنها وسيلة اتصال وليست وسيلة تجميع. نحن في الغالب وبفضلها نتكلم ولكننا لا ننصت. نتشارك الأخبار والآراء ولكننا لا نتشارك الرؤى. لا بد من العودة إلى ممارسة التأمل وانتصار الفرد على نفسه.
بين «أوروبا هي الحل»، و «أميركا أولاً ولكن لتعود»، ونصيحة أنغيلا مركل بالانتباه إلى أن قرار المستقبل بيد من يمتلك المعلومات، ورأي مودي بالعودة إلى التأمل، تراوحت الحلول المطروحة في دافوس على مدى الأيام الثلاثة الأولى من المؤتمر للخروج من أزمات العولمة. ولا يزال المؤتمر منعقداً حتى ساعة كتابة هذه السطور.
المصدر: الحياة