أكد البطريرك الماروني مار بشاره بطرس الراعي إنّ تأليف الحكومة من ممثّلي الكتل النيابية فقط لا يعني تكوين سلطة إجرائية، بل تكوين مجلس نيابي مصغّر، الأمر الذي يناقض فصل السلطات. وقال: “ذلك أنّ لبنان فدراليّة شخصيّة لا جغرافيّة، وبالتّالي لا يوجد فيه إدارات محليّة، كاللاّمركزيّة الإداريّة الموسّعة”. وتساءل: “أين هو المجتمع المدني الذي يشكّل أكثر من نصف الشعب اللّبناني، ويحرم من مشاركته في الحكومة؟ أهكذا تستعدّ الدولة لإجراء الإصلاحات التي طلَبها مؤتمر باريس CEDRE المنعقد في 6 نيسان الماضي أي منذ أكثر من ثلاثة أشهر، كشرط للحصول على المساعدات الماليّة الموعودة بمبلغ أحد عشر مليار ونصف دولار أميركي؟”.
كلام الراعي جاء خلال زيارته المجلس الإقتصادي الإجتماعي، قال: “أسوة بدول العالم التي تسعى بكلّ زخم واندفاع الى الإفادة القصوى من مواردها الوطنية المتاحة من أجل بناء إقتصاداتها ومجتمعاتها، وتأمين مستقبل أفضل لأجيالها، نطالب بالسّعي مع القطاع الرّسمي إلى عدم التفريط بهذه الموارد وتوظيفها في سبيل تقدّم لبنان وازدهاره”.
كلمة الراعي كاملة:
1. يسعدني أن أقوم بزيارة هذا المجلس الإقتصادي والإجتماعي، شاكرًا رئيسَه الأستاذ شارل عربيد على الدعوة الكريمة وعلى كلمته الترحيبيّة اللّطيفة. فأحيّيكم جميعًا تحيّة محبّة وتقدير، وأنتم تلتقون في هذا المجلس للتفكير والحوار من أجل تكوين رؤية واضحة ووضع سياسة إقتصادية بنّاءة؛ وتعملون بهدف إبداء الرأي والمشورة بشأن الملفّات الإقتصادية والإجتماعية. هذه هي الغاية من إنشاء هذا المجلس. فينبغي والحالة هذه أن تتعاون الحكومة معه بإرسال الطَّلَبات لإبداء الرأي والإستشارة والإستماع إليه في المواضيع ذات الطّابع الإقتصادي والإجتماعي. ومعلومٌ أنّ الشأن البيئي مرتبطٌ إلى حدٍّ بعيد بالقطاعين الإقتصادي والإجتماعي. فلا بدّ من إدراجه في نشاط هذا المجلس.
2. نعرف، من تجارب الدول، أنّ الدولة القويّة هي القويّة بإقتصادها وبعملتها المستقرّة، ونمّوها وتنميتها، وبفرص العمل والتقدّم التكنولوجي وتنوّع الإنتاج والقدرة على المنافسة. ونعرف أيضًا أنّ لغة السياسة في عالم اليوم هي لغة الإقتصاد والمنافسة والتبادل التّجاري والمشاركة في الرساميل وفي الإنتاج وفي البيع. فكلّما يجتمع رؤساء الدول، يمثل الإقتصاد أولوية في محادثاتهم ومن ثمّ التسلّح وفضّ النزاعات في العالم.
ونعرف أنّ الإقتصاد القوي، يساهم في بنيانه القطاعان الرّسمي والخاص: فبينما يضع الرّسمي القوانين والأنظمة الحاضنة والراعية والمحفّزة للعمل والإنتاج والتصدير، ينكبّ الخاص على بناء المزارع والمصانع والفنادق والخدمات على أنواعها، فيزدهر الإقتصاد وينعم الناس بالرخاء وبراحة البال، ويثقون بغدهم ويتمسّكون بأرضهم.
3. كم يؤسفنا أن تكون ممارسة السياسة عندنا بعيدةً كلّ البُعد عن هذه المفاهيم وهذه المساعي، ولا يهمّ أقطابها والنافذين سوى تأمين حصصهم ومصالحهم على حساب الصالح العام. يكفي أن نرى بكلّ أسف كيف يُماطلون ويماطلون في تأليف الحكومة الجديدة، ولا تعنيهم معاناة الشعب إقتصاديًا وإجتماعيًا ومعيشيًا. إنّ تأليف الحكومة من ممثّلي الكتل النيابية فقط لا يعني تكوين سلطة إجرائية، بل تكوين مجلس نيابي مصغّر، الأمر الذي يناقض فصل السلطات. ذلك أنّ لبنان فدراليّة شخصيّة لا جغرافيّة، وبالتّالي لا يوجد فيه إدارات محليّة، كاللاّمركزيّة الإداريّة الموسّعة، كما ينبّه الأستاذ أنطوان مَسرّة عضو المجلس الدستوري (راجع النهار الخميس 12 تموز 2018). أين هو المجتمع المدني الذي يشكّل أكثر من نصف الشعب اللّبناني، ويحرم من مشاركته في الحكومة؟ أهكذا تستعدّ الدولة لإجراء الإصلاحات التي طلَبها مؤتمر باريس CEDRE المنعقد في 6 نيسان الماضي أي منذ أكثر من ثلاثة أشهر، كشرط للحصول على المساعدات الماليّة الموعودة بمبلغ أحد عشر مليار ونصف دولار أميركي؟
4. نسمع يوميًا، ومن حولنا، ومن زائرينا عن حال إقتصادية ومالية صعبة يمرّ بها القطاعان الرّسمي والخاص في لبنان. فالرّسمي يعاني من عجز وتعثّر ماليَين؛ والخاص يعاني من أزمة سيولة وتصريف لنتاجه بعد إقفال العديد من الشركات. نحن ندرك تمامًا مصاعب المنطقة وتأثيراتها، حروبها ونزاعاتها ونزوح شعبها وتداعياتها علينا، ولكن لبنان ذو الخمسة ملايين نسمة يمتلك موارد أساسيّة مهمّة للغاية هي: المورد الطبيعي من أجمل وأغنى الموارد في محيطنا، والمورد البشري من أغنى الموارد في المنطقة، والمورد المالي من أعلى الموارد بالنسبة الى عدد السّكان بين دول العالم. لكن كيف يمكن أن نرضى عن سوء إدارة مواردنا الوطنية هذه؟ فلا يمكن أن نرضى بعدم المحافظة على جمال طبيعتنا ونقاوة بيئتنا، وبالتالي بإهمال ما يعزّز السياحة، ويحمي الصحة العامة! ولا نرضى بإهمال مواردنا الشابة المتعلّمة والمتخصصة من أجل بناء دولتنا. وهل استفدنا بما فيه الكفاية من موردنا المالي الضخم والمتمثّل بودائع المصارف في لبنان وهي ثمرة جهود اللبنانيّين في الداخل والخارج عبر سنين طويلة.
فإنّا أسوة بدول العالم التي تسعى بكلّ زخم واندفاع الى الإفادة القصوى من مواردها الوطنية المتاحة من أجل بناء إقتصاداتها ومجتمعاتها، وتأمين مستقبل أفضل لأجيالها، نطالب بالسّعي مع القطاع الرّسمي إلى عدم التفريط بهذه الموارد وتوظيفها في سبيل تقدّم لبنان وازدهاره.
بإهمال تثمير كلّ هذه الموارد من قِبل السّلطة السياسية، انتفت الطبقة المتوسّطة عندنا، وأصبح ثلث الشعب اللّبناني تحت مستوى الفقر، و 30% من قوانا الحيّة عاطلة عن العمل، ولا ننسى أنّ السّبب الأكبر لهذا الجمود ولهذه الحالة هو تفشّي الفساد في الوزارات والإدارات العامّة، وهدر المال العام، وحشر الموظفين من دون حاجة وكفاءة، بغية الاستفادة فقط من مال الدولة.
5. ونعرف أنّ الإصلاحات الإقتصادية التي تقودها دول العالم من أجل عدالة إجتماعية وفعاليّة أفضل، هي ضريبية واجتماعية وصحية وتربوية وإنتاجية وبيئية. كما تشدّد تلك الدول على البحث العلمي وبخاصّةٍ التطبيقي، من أجل تطوير إنتاجها وإعطائه قدرة أعلى على المنافسة في الأسواق العالميّة. ومن بين تلك الإصلاحات، إشراك القطاع الخاص في مسألة تحديث إدارة الخدمات العامة والبُنى التحتيّة لحساب الدولة، مع احتفاظ هذه بالمُلكية وبحقّ المراقبة. فتكثر عندئذٍ الإستثمارات وفرص العمل وينشط الإقتصاد ويخفّ العجز المالي في الموازنات العامة وتتقوّى الدولة. كما أنّ الّلامركزية الإداريّة والماليّة قد اعتُمدت في الكثير من الدول من أجل الإنماء المتوازن ومحاولة التهرّب الضريبي. ولسنا ندري لماذا لا تُطبّق عندنا!
6. إنّ مجلسَكم الكريم هو المكان الأنسب لمناقشة كلّ هذه المسائل وغيرها، ولتقديم النّصح للعاملين في القطاعين الرسمي والخاص في بُعديه: البُعد الإقتصادي الذي يحتاج الى تحفيز قطاعاته الإنتاجية، ولاسيّما منها تطوير الصناعة ورعايتها ودعم الزراعة، مع الإهتمام بتأمين الأسواق لتصريف الإنتاج؛ ؛ والبُعد الإجتماعي الذي يحتاج الى وضع ميثاق إجتماعي جديد، يقوم على تحديث القوانين في ما يختصّ بالتقاعد والحماية الإجتماعية، والعمل، وبشؤون السّكن والإسكان والتربية والطبابة. أنتم تعرفون كلّ هذه الأمور ومصاعبها وتحدّياتها وأخطارها. فلا بدّ من العمل على مواجهتها وتذليلها.
رهاننا عليكم كبير وأملنا أن تساهموا بقوّة في نهوض البلاد ماليًا واقتصاديًا واجتماعيًا. وفّقكم الله وقاد خطاكم نحو دروب الخير والصّواب والإنجاز والنّجاح”.