يحيى دبوق – الأخبار
لا تتحدد دلالات نتائج الانتخابات الإسرائيلية، التي جرت أمس، بناءً على هوية الفائز فيها، بل على نتيجة الحزب اليساري الصغير، «ميرتس»، الذي غرد تقريباً وحيداً في حلبة اليسار: 5 مقاعد في الكنيست (وفق النتائج الأولية). أما الباقي، فكلها أحزاب يمينية مع اختلاف الدرجات، حتى إن كانت تدرج في معسكرات الوسط. ورغم التوصيفات التي أطلقت على الأحزاب الإسرائيلية وتكتلاتها، فإنها بمعظمها يمينية، وقد ينزاح بعضها إلى الوسط، إضافة إلى شخصيات متفرقة داخل لوائحها توصف باليسارية، رغم أن اللائحة يمينية، وهي مفارقة تستأهل الدراسة!
اليسار، وفق التقسيم التقليدي للأحزاب والكتل في إسرائيل، هو «ميرتس»، ممثل اليسار بامتياز بعد انزياح «العمل» إلى الوسط منذ سنوات، يضاف إليه تسامحاً كتلة فلسطينيي 1948 التي لا تجد مكاناً في التصنيفات الإسرائيلية سوى أنها خارج الحلبة السياسية عملياً. والمشهد العام لهذه الانتخابات، في حملاتها الانتخابية ثم نتائجها، يشير إلى الآتي: مع مستوى من التسامح، يمكن القول إن الانتخابات خيضت عملياً بين اليمين واليمين المتطرف واليمين الأكثر تطرفاً. هذا التوصيف يشمل أيضاً أحزاب الوسط، وفي مقدمتها «أزرق أبيض» بمكوناته اليمينية التي تفوق فعلياً الوسطية، وإن جرى التسليم على اعتباره وسطياً.
التوصيف اليميني مع مراعاة درجاته يستوعب تقريباً كل الأحزاب التي خاضت هذه الانتخابات مع استثناءات محدودة، والمقصود باليمينية والتمايز عن اليسار هو الموقف من الأراضي المحتلة وحدود التنازل عن بعضها للفلسطينيين، في عملية سياسية هي في حد أدنى باتت متعثرة، إن لم تكن متعذرة. وفي ذلك، تتقارب الأحزاب الإسرائيلية في الجوهر مع تباينات شكلية. وبدلالة تأكيدية، تراجعت أهمية الموقف من القضية الفلسطينية إلى مكانة متأخرة في سلم اهتمام الأحزاب والجمهور الإسرائيلي على السواء، وتراجع وفقاً لها التفريق بين اليمين واليسار على خلفيتها، بل تحولت إلى بند على الهامش مهمته الأولى تظهير موقف متشدد من الفلسطينيين لتأكيد اليمينية، أو كونه فرصة لتأكيد أن التنازل على خلفية التفاوض أو الانفصال الأحادي الجانب خارج حسابات الأحزاب التي توصف بالوسطية. والمعنى: لا تجاذب حول العملية السياسية مع الفلسطينيين بوصفها برنامج عمل مع رغبة في تنفيذه في حال الوصول إلى السلطة، كما كان يحدث في الحملات الانتخابية الماضية.
وإذا كان حزب «الليكود» في الماضي مضطراً خلال الانتخابات إلى أن يعرض جدول أعماله وخططه تجاه الفلسطينيين والمفاوضات، مع أو دون رغبة في تنفيذها لاحقاً، فإن هذه الانتخابات شهدت انقلاباً في التموضعات. فالأحزاب التي تتهم باليسارية أو الوسطية، وهي منها براء، مضطرة إلى أن تتحدث عن القضية الفلسطينية والعملية السياسية لتؤكد أنها لن تتنازل للفلسطينيين إذا جاؤوا صاغرين إلى طاولة المفاوضات، وهذا ما يفسر بنود برنامج «أزرق أبيض» في أن القدس «عاصمة إسرائيل الأبدية غير القابلة للتقسيم»، وإعادة تأكيده رفض العودة إلى حدود 67، والتشديد على بقاء غور الأردن تحت السيادة الإسرائيلية… وغيرها. هذه البنود هي بنود «الليكود» نفسها ما قبل الحملة الانتخابية، إذ لم يعد التفريق وارداً بينهما بعد أن كاد الموقف من العملية السياسية يتطابق، ما يعني عملياً أن «أزرق أبيض» زاحم «الليكود» على يمينيته، ما اضطر الأخير خلال الحملة، وعلى لسان بنيامين نتنياهو نفسه، إلى أن يزاحم اليمين الأكثر تطرفاً منه، ويؤكد الرغبة في بسط السيادة الإسرائيلية على الضفة المحتلة، وإن تدرجاً.
على خلفية هذه المحددات، تغيب التوصيفات المعتادة بين اليمين واليسار، وإن كانت مستمرة لتسهيل المواكبة الإعلامية والتفريق بين الأقطاب المتنافسة، على عادة جرى اتباعها طويلاً. لكن في جوهر التفريق، كما كان في الماضي، فإن اليسار الإسرائيلي انتهى مع انتهاء الاهتمام بالقضية الفلسطينية، ليستقر تقريباً على «ميرتس» بمقاعده الخمسة، وهو عدد يشير إلى أي حدّ بات فيه اليسار بمفهومه التقليدي متقلصاً. هذا الواقع يفسر أيضاً مفارقات في هذه الانتخابات، وفي المقدمة وجود شخصيات يسارية وفق التوصيفات القديمة في قوائم يمينية متطرفة جداً من العملية السياسية مع الفلسطينيين، كما حال حزب «موشيه فيغلين» و«زهوت» وغيرهما.
على ذلك، بات بالإمكان القول إن البحث في يمينية الأحزاب الإسرائيلية، مع استثناء، ودائماً في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، لم يعد مطلوباً إلا في مسعى لتحديد مدى هذه اليمينية ومستواها، إذ غابت فلسطين فعلياً عن التجاذب والمنافسة ليحل مكانها، أو في حد أدنى في موازاتها، بل يتقدم عليها في الأهمية، مواضيع وملفات أخرى مبنية على المصالح الشخصية للأفراد والجماعات الحزبية. على هذه الخلفية، يمكن تقسيم الأحزاب الإسرائيلية بين مؤيد لنتنياهو ومعارض له، وهو تقسيم أسلم وأكثر صوابية من التقسيم التقليدي على خلفية الموقف من الفلسطينيين. ومصداق هذا التقسيم أيضاً، حزب وزير الأمن السابق موشيه يعلون اليميني بامتياز، وائتلافه في «أزرق أبيض الوسطية»، مع تأكيد أن هدفه إسقاط نتنياهو بالدرجة الأولى والأخيرة.
لكن ما الذي دفع القوس السياسية الإسرائيلية إلى هذه التموضعات؟ في الدرجة الأولى، تراجع المقاومة الفلسطينية المسلحة بوصفها خيار التحرير لدى الفلسطينيين، والعمل على محاربتها فلسطينياً وعربياً جنباً إلى جنب مع إسرائيل، في تكافل وتضامن مخزيين. فباتت المقاومة عملياً محصورة في بقعة جغرافية محدودة ومحاصرة، وجل اهتمامها نتيجة ظرفها الصعب أن تستعرض قدراتها في محاولة منها لفك الحصار عنها وعن شعبها ما أمكن، مقابل بقعة فلسطينية أكبر تتحرك فيها السلطة التي تصارع نفسها على سراب حكم ودولة، يؤكدون لها ليل نهار أنها لن تكون.
ما يؤذي الاحتلال فعلياً، وما يدفعه إلى «التنازل»، هو المقاومة المسلحة، وإن في ما يتعلق بالقدر اليسير من الحقوق الفلسطينية الذي تطالب به هذه السلطة عبر التوسل السياسي، لكن الأخيرة تعمل ضدها (المقاومة) وبامتياز، كي تُرفع لها القبعة الصهيونية، وذلك عبر «التنسيق الأمني» مع العدو، وهو الاسم المستتر للقمع والأسر والقتل وللاستخبارات المأجورة ضد المقاومين بأيدٍ فلسطينية لمصلحة الاحتلال. في وضع فلسطيني مزرٍ كهذا، يضاف إليه وضع عربي يتراكض نحو إسرائيل طالباً ودّها، ويهمل بل يعادي القضية الفلسطينية لإرضائها، مصحوباً بإدارة أميركية منحازة إلى الحد الذي تزاحم فيه مواقف اليمين الإسرائيلي نفسه، لا مفاجأة في أن تتحول قضية فلسطين إلى الهامش في الانتخابات لأنها من ناحية عملية باتت للإسرائيليين غير موجودة.
وعلى خلفية التقسيم التقليدي بين اليمين واليسار في إسرائيل، يمكن القول إن الناخب اليميني انتخب القوائم اليمينية في هذه الانتخابات على خلفية برامجها اليمينية، ووفقاً للتقسيم الأسلم، اختار الناخب الإسرائيلي نتنياهو مقابل خصومه السياسيين، أو غانتس مقابل خصومه السياسيين. هذه النتيجة لا تتغير مع هوية من سيكلف تشكيل الحكومة وفقاً للاستشارات لاحقاً. وهذه هي أهم دلالات نتائج الانتخابات: هامشية القضية الفلسطينية ويمينية إسرائيل، مع ثبات معادلات القوة وقواعد الاشتباك التي يتعذر تغييرها مع تغيير الحكام في تل أبيب، لأنها مبنية على القوة والتعاظم العسكري، لا التوسل السياسي.