شارك البطريرك الماروني الكردينال مار بشارة بطرس الراعي الى جانب رؤساء الكنائس الشرقية في الصلاة المسكونية على نية السلام ووقف الحروب والعنف في منطقة الشرق الاوسط، بدعوة من البابا فرنسيس، وقد ارتفعت الصلوات بلغات عدة في مكان اقيم خصيصا لهذه المناسبة على الواجهة البحرية لمدينة باري الايطالية، التي اختارها البابا فرنسيس لموقعها الجغرافي المطل على الشرق الاوسط.
وتضمنت الصلوات التي رفعها البطاركة، “ابتهالات الى الله كي يظهر رحمته ويهب خلاصه في سلام حقيقي الى شعوب الشرق الاوسط التي تعاني الحرب والقهر والظلم، سائلة الرب الضابط الكل الرحمة لكل الشهداء والشفاء للمصابين والمرضى والمجروحين في كل مكان والحرية للمخطوفين والاسرى وفي مقدمهم المطرانين بولس يازجي ويوحنا ابراهيم، ومن اجل المسيحيين في الشرق الاوسط ليكونوا مجتمعات حية وقوية، يدرك أعضاؤها إسهامهم في المجتمعات التي ينتمون اليها وفي الكنيسة بأكملها”.
البابا فرنسيس
وكان البابا وبعد زيارة الى كاتدرائية القديس نقولا حيث رفع الصلاة مع رؤساء الكنائس على ضريح القديس الآتي من الشرق، افتتح الصلاة بكلمة جاء فيها:
“لقد جئنا كحجاج إلى مدينة باري، وهي نافذة مشرعة صوب الشرق القريب، ونحن نحمل في قلبنا كنائسنا، وشعوبنا والأشخاص العديدة التي تعيش أوضاعا من المعاناة الكبيرة. ولهم نقول: “إننا قريبون منكم”. أيها الإخوة الأعزاء، شكرا جزيلا على مجيئكم إلى هنا بكل سخاء واستعدادية. وأنا ممتن للغاية لكم جميعا على ضيافتكم لنا في هذه المدينة، مدينة اللقاء، ومدينة الضيافة.
لتساندنا أم الله في مسيرتنا المشتركة، وهي تكرم هنا تحت اسم ال الأوديدجيتريا: أي التي تدل على الحياة. هنا ترقد رفات القديس نقولا، أسقف من الشرق، وتكريمه يجتاز البحار ويعبر الحدود بين الكنائس. ليتشفع القديس العجائبي كي يشفي الجروح التي يحملها الكثيرون في داخلهم. هنا نتأمل بالأفق وبالبحر ونشعر بأننا مدفوعون لنعيش هذا اليوم وفكرنا وقلبنا متجهان نحو الشرق الأوسط، ملتقى الحضارات ومهد الديانات التوحيدية الكبرى.
فيه جاء الرب “الشارق من العلى” (لو 1، 78). ومنه انتشر نور الإيمان في العالم كله. فيه تفجرت ينابيع الروحانية العذبة والحياة الرهبانية. وما زالت محفوظة فيه طقوس قديمة وفريدة، وغنى فني ولاهوتي لا يقدر بثمن، ولا يزال فيه تراث الآباء الكبار في الإيمان. إن هذا التقليد هو ثروة يجب المحافظة عليها بكل قوانا، لأن جذور أنفسنا بالذات هي في الشرق الأوسط.
ولكن قد تركزت فوق هذه المنطقة الرائعة، ولا سيما في السنين الأخيرة، غيمة ظلام كثيفة: حرب، وعنف، وخراب، واحتلالات وأشكال من الأصولية، والهجرة القسرية والهجر، وكل هذا أمام صمت الكثيرين وتواطؤ العديدين. وقد أصبح الشرق الأوسط أرض أشخاص تترك أرضها. وهناك خطر إلغاء وجود إخوتنا وأخواتنا بالإيمان، فيتشوه وجه المنطقة بالذات، لأن الشرق الأوسط دون المسيحيين لا يكون الشرق الأوسط”.
أضاف: “يبدأ نهارنا هذا بالصلاة، كيما يرفع النور الإلهي ظلمة العالم، لقد أضأنا، أمام القديس نقولا، “المصباح ذات الشعلة الوحيدة”، رمز الكنيسة الواحدة. ونريد اليوم معا أن نضيء شعلة رجاء. ولتكن المصابيح التي سوف نضعها علامة لنور ما زال يشع في الليل. إن المسيحيين في الواقع، هم نور العالم (را. متى 5، 14)، ليس عندما يكون كل شيء من حولهم منيرا، إنما أيضا حين لا يستسلمون، في الأوقات المظلمة من التاريخ، إلى الظلمة التي تغمر كل شيء، ويبللون فتيل الرجاء بزيت الصلاة والمحبة. لأنه، عندما ترفع الأيدي إلى السماء في الصلاة، وعندما تمد اليد إلى الأخ، دون البحث عن المصالح الشخصية، يتأجج نار الروح القدس ويشرق روح الوحدة وروح السلام. لنصل متحدين، كي نلتمس من رب السماء ذاك السلام الذي لم يستطع أقوياء الأرض أن يجدوه. فمن مجرى النيل إلى وادي الأردن وما بعده، ومرورا بنهر العاصي وحتى الدجلة والفرات، تعلو صرخة المزمور: “لأدعون لك بالسلام” (122، 8). من أجل الإخوة الذين يتألمون ومن أجل الأصدقاء من جميع الشعوب والمذاهب، لنردد: لأدعون لك بالسلام. ولنتوسل مع صاحب المزمور وبشكل خاص من أجل أورشليم، المدينة المقدسة المحببة لدى الله والمجروحة من البشر، والتي ما زال الرب يبكي عليها: لأدعون لك بالسلام.
ليحل السلام: هي صرخة الكثير من “هابيل” اليوم، التي تصعد أمام عرش الله. ومن أجلهم، لا يمكننا أن نسمح لأنفسنا بعد، في الشرق الأوسط كما في أي مكان من العالم، أن نقول: “أحارس لأخي أنا؟” (تك 4، 9). اللامبالاة تقتل، ونحن نريد أن نكون أصواتا تعارض جرائم اللامبالاة. نريد أن نكون صوت من لا صوت له، ومن يستطيع فقط أن يخفي دموعه، لأن الشرق الأوسط اليوم يبكي، يتألم اليوم ويصمت، فيما آخرون يدوسونه بحثا عن السلطة والغنى. من أجل الصغار، والبسطاء، والمجروحين، من أجلهم، هم الذين يقف الله إلى جانبهم، نحن نبتهل: ليحل السلام، استجب لنا اليوم يا “إله كل عزاء” (2 قور 1، 3)، يا من تثني منكسري القلوب وتضمد الجراح (را. مز 147، 3).”
لقاء “باري” نظمه مجمع الكنائس الشرقية برئاسة الكردينال ليوناردو ساندري بالتعاون مع المجلس الحبري للوحدة بين المسيحيين برئاسة الكردينال كورت كوخ وقد شارك فيه آلاف المؤمنين الذين هتفوا للسلام الدائم في الشرق الاوسط وللوحدة بين المسيحيين وسط ترانيم روحية بحسب طقوس الكنائس الشرقية.
بعد ذلك توجه البابا مع رؤساء الكنائس الى كاتدرائية القديس نقولا، حيث عقدت خلوة دامت لاكثر من ساعتين ونصف الساعة عرض فيها البطاركة الاوضاع في الشرق الاوسط والحلول الممكنة لها. وكان تشديد في مداخلة للبطريرك الراعي على ضرورة عودة النازحين واللاجئين الى ارضهم بكرامة، وعلى وجوب الفصل بين الازمة السياسية في سوريا وبين هذه العودة.
بعد نهاية اللقاء، اطل البابا فرنسيس على المؤمنين المحتشدين في ساحة الكاتدرائية حيث القى كلمة ختام يوم الصلاة، فأعرب عن فرحه للمشاركة التي “عشناها اليوم بنعمة من الله”.
وتابع: “تبادلنا المساعدة لإعادة اكتشاف وجودنا المسيحي في الشرق الأوسط”، مشددا على “أن هذا الوجود سيكون أكثر نبوية كلما شهد ليسوع رئيس السلام (راجع أش 9، 5)”، مشيرا إلى “خطر تعرض الكنائس أيضا إلى تجربة منطق العالم، منطق القوة والربح، وأيضا إلى خطيئة عدم تماشي الحياة مع الإيمان التي تعتم الشهادة”.
واضاف: “علينا الارتداد مرة أخرى إلى الإنجيل، وهو أمر ضروري اليوم في ليل الشرق الأوسط. وكما في ليل جتسمانية لن يكون الهروب أو السيف ما يستبق فجر الفصح المشع، بل هبة الذات في محاكاة للرب. أن بشرى يسوع السارة، يسوع المصلوب والقائم انطلاقا من المحبة، قد كسبت قلوب البشر عبر القرون منطلقة من الشرق الأوسط، لا لارتباطها بقوى العالم بل بقوة الصليبـ”.
وشدد الحبر الأعظم على “أن الإنجيل يلزمنا بارتداد يومي إلى تصميم الله وبأن نجد فيه الأمن والعزاء، وبأن نعلنه للجميع رغم كل شيء” متوقفا عند “إيمان الأشخاص البسطاء المتجذر في الشرق الأوسط كينبوع نستقي منه لسد عطشنا ولنتطهر، مثل ما يحدث عندما نعود إلى الأصول متوجهين كحجاج إلى القدس، الأرض المقدسة، أو إلى المزارات في مصر والأردن، لبنان وسوريا وتركيا والأماكن المقدسة الأخرى في المنطقة”.
ثم تحدث البابا فرنسيس عن الحوار الأخوي الذي جمعه مع قادة الكنائس في الشرق الأوسط، “والذي كان علامة على ضرورة التطلع المتواصل إلى اللقاء والوحدة بلا خوف من الاختلافات”.
وأضاف: “أن هذا ينطبق على السلام أيضا، الذي يجب إنماؤه حتى على أرض يبستها المواجهات، لأنه ما من بديل عن السلام والذي لا يتم بلوغه بهدنة تضمنها الجدران أو إظهار القوة، بل بالرغبة الفعلية في الإصغاء والحوار”، متابعا “إننا ملتزمون بالسير والصلاة والعمل، ونتضرع كي يسود فن اللقاء على استراتيجيات الصدام، وأن تحل محل علامات التهديد والسلطة علامات الرجاء، أي الأشخاص ذوو الإرادة الطيبة من الديانات المختلفة الذين لا يخشون تبادل الحديث وقبول منطق الآخر والاهتمام المتبادل”، مؤكدا أنه “فقط من خلال الاهتمام بألا ينقص أحد الخبز والعمل والكرامة والرجاء ستتحول صرخات الحرب إلى أناشيد سلام. إلا أن هذا يتطلب من أصحاب السلطة أن يضعوا أنفسهم في خدمة السلام، لا مصالحهم الخاصة. كفى إذن لمكاسب قليلين على حساب الكثيرين، ولاحتلال الأراضي الذي يمزق الشعوب، كفى لسيادة حقيقة البعض على آمال الأشخاص، كفى لاستغلال الشرق الأوسط من أجل مكاسب غريبة عن الشرق الأوسط”.
وتوقف البابا بعد ذلك عند الحرب باعتبارها “الآفة التي تصيب بشكل مأساوي منطقة الشرق الأوسط الحبيبة”، مذكرا بـ”أن الفقراء في المقام الأول هم ضحاياها”.
وتحدث في هذا السياق عن سوريا المتألمة واصفا الحرب فيها بـ”نتاج السلطة والفقر، والتي يمكن هزيمتها بالتخلي عن منطق الهيمنة وبالقضاء على الفقر”، مشيرا إلى “أن حروبا عديدة غذتها أشكال من الأصولية والتعصب تتموه بذرائع دينية، بينما هي بالأحرى تجديف باسم الله الذي هو السلام، واضطهاد للأخ الذي كان يعيش دائما بالقرب. هذا ولا يمكن تجاهل دور الأسلحة في تغذية العنف”، مذكرا في هذا السياق بما وصفها بمسؤولية خطيرة تثقل ضمير الدول وخاصة تلك القوية، وذلك في إشارة إلى التناقض بين الحديث عن السلام واللهاث الخفي في سباق التسلح.
ودعا البابا الى “عدم نسيان القرن المنصرم ودروس هيروشيما وناغازاكي”، محذرا من “تحويل الشرق، أرض الكلمة السلام، إلى أرض صمت مظلمة”. وذكر مجددا بـ”السعي إلى الربح والذي، لا يكترث بشيء راغبا في الاستيلاء على حقول الغاز والمحروقات بدون احترام البيت المشترك، أو الخجل من أن يملي سوق الطاقة قوانين التعايش بين الشعوب، ولفتح طرق التعايش يجب التطلع إلى من يبغي تعايشا أخويا مع الآخرين، ومن الضروري حماية الجميع لا فقط الأغلبية، يجب أيضا في الشرق الأوسط السير نحو حق المواطنة المشتركة”، مؤكدا “أن المسيحيين يجب أن يكونوا مواطنين بشكل كامل، متساوين في الحقوق”.
وتحدث عن مدينة القدس معربا عن “قلق كبير ولكن بدون التخلي أبدا عن الرجاء”، فوصفها بـ”مدينة لجميع الشعوب، مدينة فريدة، مقدسة للمسيحيين واليهود والمسلمين في العالم بأسره”.
وأضاف: “يجب الحفاظ على هوية هذه المدينة ودعوتها، بعيدا عن أي خلاف وتوتر، ويجب احترام الوضع القائم للمدينة المقدسة الذي حدده المجتمع الدولي وتطالب به بشكل متكرر الجماعة المسيحية في الأرض المقدسة”، مؤكدا “أن فقط حلا تفاوضيا بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بدعم من المجتمع الدولي، هو القادر على بلوغ سلام ثابت ودائم وضمان وجود دولتين لشعبين”.
هذا وخصص البابا الجزء الأخير من كلمته للأطفال، وجه الرجاء، فذكر بالأرقام المخيفة حسب ما ذكر لأطفال الشرق الأوسط الذين يبكون من فقدوا في عائلاتهم جراء العنف، ويتم الاعتداء على أراضيهم ما يقود غالبا إلى الاضطرار إلى الهروب. أطفال رأوا في الجزء الأكبر من حياتهم الحطام بدلا من المدارس، ويسمعون دوي القنابل بدلا من صخب اللعب المرح. ودعا البشرية إلى الإصغاء إلى صرخة الأطفال الذين تعظم أفواههم جلال الرب (راجع مز 8، 3)، مؤكدا “أن العالم بتجفيف دموع هؤلاء الأطفال سيستعيد كرامته”.
وختم حديثه في نهاية يوم الصلاة من أجل السلام في الشرق الأوسط، راجيا “أن تظل قلوبنا متحدة ومتوجهة إلى السماء بانتظار أن تعود، ومثل ما حدث في زمن الطوفان، ورقة الزيتون الخضراء (تك 8، 11)، وألا يظل الشرق الأوسط قوس حرب بل أن يكون سفينة سلام تستقبل الشعوب والأديان”، وتضرع “من أجل أن تزول عن الشرق الأوسط الحبيب ظلمات الحرب والسلطة والعنف، التعصب والربح الجائر، الاستغلال والفقر واللامساواة وعدم الاعتراف بالحقوق”.
ومساء احتفل البطريرك الراعي مع الكردينال ساندري والكردينال كوخ بالذبيحة الالهية على نية السلام وذلك على قبر القديس نقولا في كاتدرائية “باري”.