هيام القصيفي – الأخبار
بين الاتصال الذي أجراه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بالرئيس السوري بشار الأسد، وتفعيل علاقة من نوع مختلف مع موسكو، يتقدم مشهد سياسي جديد في الساحة المسيحية، وتحديداً المارونية، لا علاقة له بالإطار الرسمي لكلا الحدثين
لم تكن موسكو في أولويات القيادات السياسية المارونية أو الكنيسة المارونية، قبل الحرب وخلالها. العلاقة بين الطرفين كانت هامشية، معززة بالموقف الذي اتخذته روسيا الارثوذكسية أيام السلطنة العثمانية بحماية الارثوذكس في لبنان وسوريا وتركيا، ورعايتهم، في مقابل الحماية الغربية ـــــ الفرنسية لموارنة لبنان، قبل أن تتلاشى قدرة العثمانيين على التحكم في مصير المجتمعات والإثنيات والطوائف التي كانت تحت سلطتهم.
في الادب والسياسة والعلاقات الدينية، ظلت روسيا الامبراطورية بعيدة عن الوجدان الماروني. وبعد الثورة الشيوعية، قبل قرن من الزمن، تعزز هذا الانفصال، ولو أن روسيا لم تناصب يوماً العداء للبنان. خلال فترة الحرب اللبنانية، أسهم وقوف موسكو الى جانب القوى المناهضة للقيادات المارونية في تعميق الخلاف، لكن هذه العلاقة تحسّنت في أواخر مراحل الحرب، وتمكنت روسيا من نسج علاقات مع قيادات سياسية مارونية فاعلة.
لا تشبه موسكو اليوم موسكو الأمس، في ضوء المتغيرات السياسية التي عرفتها، والأكيد أن القيادات المارونية الحالية لا تشبه القيادات التاريخية السابقة أيضاً. الواضح أن الخطوط المفتوحة ـــــ مارونياً ـــــ مع موسكو حديثاً تفتح باب الاجتهادات والاسئلة، لأنها تأتي من خارج سياق تقليدي للعلاقات بين الدول والقوى السياسية.
فموسكو بما تمثل إقليمياً، اليوم، ما هي الا إحدى كفّتي الميزان. وحضورها ودورها في سوريا، يطرح إيجابيات لفريق وسلبيات لفريق آخر، من سياستها في الجنوب السوري، وعلاقاتها مع إيران وحزب الله، الى طروحات حول دورها الفاعل في لبنان وسوريا في شأن عودة النازحين والمفاوضات الدولية حول مستقبل سوريا. من هنا لا يُنظر بكثير من الارتياح الى تأسيس نوع جديد من العلاقة مع روسيا، يختلف عن العلاقة الديبلوماسية الرسمية المعتادة، ومستوياتها وشخصياتها، لأن الهدف منه لا يصبّ في خانة تعزيز العلاقة بين البلدين وهي قديمة وتاريخية، بل يصبّ في إطار تعزيز اتجاه سياسي على آخر.
الخطوات المستعجلة باتجاه روسيا، بما يتجاوز النزوح السوري، وبحجج مختلفة وعبر أقنية رجال أعمال وعلاقات شخصية، تشكّل مشهداً جديداً، وسابقة بالمنحى الذي تتخذه. هناك جانب يتعلق بعلاقات القيادات المارونية التاريخية مع الخارج، وتحديداً مع المجتمعات الغربية والدولية، إذ لا يمكن عزل “الهجمة” على موسكو عن غياب الصلات مع الدوائر الغربية، الاميركية والاوروبية، في شكل مباشر، وتراجع مستوى الزيارات واللقاءات للقوى المسيحية عموماً مع هذه الدوائر. وإذا كان الرئيس الراحل رفيق الحريري “سرق” هذا الاهتمام الدولي خلال فترة الوجود السوري وتسلمه رئاسة الحكومة، وأيضاً في غياب القيادات المارونية، إلا أن الكنيسة ظلت حاضرة بقوة على الساحة الدولية، حتى أصبحت بكركي مقصداً طبيعياً وضرورياً لكل الزوار الغربيين الى بيروت.
اليوم، ومع اختلاف الظروف، لا تبدو الاحزاب المسيحية برمتها قادرة على خرق أي دائرة أوروبية أو أميركية بالمعنى السياسي الفاعل والمؤثر. الزيارات الرسمية لوزير الخارجية ديبلوماسية محض، حتى إن هناك كلاماً منقولا عن أحد الرسميين الذي لم يتمكن من تحديد موعد مع أي مسؤول فاعل خلال زيارته مؤخراً الى واشنطن، يفيد بأن العلاقة مع الولايات المتحدة «لم تعد مهمة». أما الاحزاب والشخصيات المارونية المعروفة بصلاتها الديبلوماسية الوثيقة، فلم تعد قادرة على إنتاج علاقة سوية فاعلة مع كثير من الاوساط الحزبية والرسمية في عواصم مؤثرة، من ألمانيا التي غالباً ما لعبت أحزابها دوراً فاعلاً مع شخصيات لبنانية خلال أزمات أساسية مر بها لبنان، الى فرنسا وبريطانيا وايطاليا، وصولاً الى كندا والولايات المتحدة.
بهذا المعنى، انحسر الحضور الماروني، الحزبي والسياسي، الى خلافات داخلية واجترار مشاكل ويوميات، لا تخرج عن إطار المماحكات اليومية، فلم يعد له وجود مؤثر في الساحة الدولية.
من هنا يصبح أي تطور في العلاقة مع روسيا، في مقابل الغياب الفاضح في اتجاهات دولية أخرى، مؤشراً لافتاً للانتباه، ذلك أن أي تداعيات ناتجة عن هذه العلاقة المعززة بدور موسكو الى جانب النظام السوري وإيران، لا يمكن أن تمر من دون تأثيرات جانبية. لا شك في أن الواقع اللبناني الرسمي لا يأخذ في الاعتبار مقتضيات كثيرة تتعلق بحال الاحزاب والقوى السياسية، لكن حين يكون القائمون بهذه الخطوات ممثلين لقوى مسيحية أساسية، يتخذ الكلام منحى مختلفاً. الامر نفسه ينطبق على اتصال رئيس الجمهورية بنظيره السوري بشار الاسد. صحيح أن البلدين ليسا في حالة حرب، وأن ديبلوماسية واقعية باتت تتحكم في العلاقات بينهما، وأن الأسد أرسل موفداً رسمياً الى عون لتهنئته بانتخابه، وأن مقربين من عون يزورون سوريا دورياً، إلا أن الانقسامات اللبنانية الداخلية فرملت أي تطور علني على هذا المستوى. فميشال عون اليوم، ليس هو نفسه الذي حجّ الى براد، وأقام الدنيا ولم يقعدها حينها. اليوم، ينظر الى رئيس الجمهورية على أنه يفترض أن يأخذ في الاعتبار مصالح جميع الافرقاء السياسيين. وحين يتخذ خطوة منفردة، تتزامن مع الكلام مسبقاً عن عودة العلاقات اللبنانية السورية الى سابق عهدها في الحكومة المقبلة، يتحول الحدث خطوة مجتزأة، على طريق تطبيع عوني ـــــ سوري، كما كانت الحال قبل الحرب السورية، فتعود وتيرة التنسيق بعدما تراجعت علناً، على الأقل الى الحد الأقصى.