آلان سركيس – الجمهورية
دخل يومُ 14 تشرين الثاني في الروزنامة المسيحيّة من بابها العريض، ضارِباً عرضَ الحائط كلّ التواريخ التي شكّلت «دربَ جلجلة» وأدّت الى الوجع المسيحي غير المنتهي.
إنه الصرّحُ البطريركي في بكركي، وكأنّ التاريخَ يعيد نفسَه لكن بصفحات بيضاء وقبلات ومصافحات كانت أشبه بـ«ممحاة» محت الأيام السوداء التي «كسرت» ظهرَ المسيحيين وأبناءَ الشمال.
إنّه الصرحُ البطريركي الذي شهد على اجتماعاتٍ ناريّة في ربيع عام 1978 بين الكتائب و»المردة»، لم تنجح حينها بكركي في رأب الصدع، فكانت حادثةُ إهدن الشهيرة التي مزّقت الجسدَ المسيحيَّ الشمالي. لكن لم يكن هناك يوم أمس أيُّ صوتٍ يعلو فوق صوت المصالحة التي أنتظرها الجميع طويلاً.
إستعدّت بكركي من الصباح الباكر لهذا الحدث، وسط انتشارٍ أمنيٍّ كثيف في محيطها بدءاً من مفرق جونية، واللافت أنّ الحدث المنتظر حظي بتغطيةٍ إعلاميّة كبيرة من وسائل عربية وأجنبية.
ولم تخفّف «زخّات» المطر التي تساقطت نحو الساعة الثالثة من حماسة الصحافيين والمصوّرين الذين انتظروا قليلاً عند المدخل قبل أن تُفتح بوابةُ الصرح الخارجيّة أمامهم، في وقتٍ كان النوابُ والشخصيات من «القوّات» و»المردة» يتوافدون تباعاً.
عاشت بكركي أجواءَ مصالحة حقيقية، فكلما إلتقى شخصان كانا يباركان لبعضهما البعض، لكن في المقابل كانت هناك غصّة، حيث تمنّى الجميع أن لا يحلّ بهذه المصالحة ما حلّ بمصالحة «القوات» و«التيار الوطني الحرّ» بعد انهيارِ «تفاهمِ معراب» وعودةِ الساحة المسيحيّة الى لغة التخاطب السلبيّة والمدمِّرة.
نحو الساعة الرابعة دخل البطريركُ المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الى القاعة والفرحةُ ظاهرة على وجهه، فهو الذي نجح في كسر الجليد وجدار الحديد بين الزعماء المسيحيين جميعاً، وذلك من خلال جمعه الرئيس أمين الجميل، والعماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع والنائب السابق سليمان فرنجية بعد إنتخابه بطريركاً في ربيع 2011.
وما هيّ إلّا دقائق قليلة حتّى دخل الدكتور جعجع وصافح البطريرك، من ثمّ دخل فرنجيّة، وفي هذه الأثناء كانت كل العيون وعدسات الكاميرات موجّهة الى المصافحة التاريخيّة، وكأنّ كلّ العالم اختُصر في هذه اللحظة بيدي جعجع وفرنجيّة.
أمسك الراعي يدَ فرنجيّة من ثمّ أمسك بيد جعجع وقرّبهما من بعضهما البعض مختصراً 40 سنة من الإبتعاد والفرقة والتهجير وحروب الأخوة وماحياً التاريخ الملطّخ بالدم بين بشري وزغرتا والشمال والمسيحيين، فتعانقت اليدان ببركة بطريرك الموارنة وتبادل الزعيمان القبلات وعلا التصفيق في القاعة.
تلك المصالحة دفعت الراعي الى التعبير عن فرحته مستعيناً بالمزمور 133، الذي يقول «ما أطيب وما أجمل أن يجلس الاخوة معاً»، وسط تأكيدِه على طيِّ صفحة الماضي، ومتمنّياً أن تشمل المصالحة الجميع، مطمئنّاً الى أنّ البحث ليس عن ثنائيات وثلاثيات بل إنّ العمل هو لجمع كل أواصر الوطن.
جلس فرنجيّة وجعجع يُصغيان الى كلام البطريرك، وكان لافتاً جلوس رئيس «المردة» وواضعاً يديه الإثنتين على الكرسيّ معظم الوقت، في حين أنّ جعجع بدّل وضعيّة جلوسه مرّات عدّة، واضعاً يده على خدّه في إحدى المرات.
لا يُحسَد الرجلان على تلك اللحظة التاريخيّة وعلى المسؤوليّة الملقاة على عاتقهما، وهما اللذان سارعا إلى تبادل الأحاديث لحظة إنتهاء الراعي من كلمته وخروجهما للاختلاء بالبطريرك في مكتبه الخاص.
واللافت أيضاً أنّ جعجع وفرنجيّة قصدا أن تكون المصالحةُ شاملة، بحيث حضر نوابُ وشخصياتُ «القوات» و«المردة» من الأقضية الشمالية إضافة الى ابن دير الأحمر النائب طوني حبشي الذي تُشكّل منطقتُه امتداداً لجبّة بشرّي، كذلك كان لافتاً حضورُ نائبي كسروان شوقي الدكّاش وفريد هيكل الخازن، وذلك للدلالة على أنّها مصالحةٌ مسيحية ولا تُحصر ببشرّي وإهدن.
إنتهى اليوم الطويل في بكركي ببيان عن اللقاء أكّد على المصالحة وحرّية العمل السياسي في البلدات وعدم العودة الى لغة العنف والقتال، وقُرعت أجراسُ بشري وزغرتا فرحاً على وقع إطلاق المفرقعات، وانصرف الجميع الى تقييم هذا الحدث سياسياً وتبيان تأثيره على الساحة المسيحيّة والوطنيّة.
وتنتظر بكركي والقوى المسيحيّة والسياسيّة إنعكاسَ هذه المصالحة سياسياً، خصوصاً أن لا وجود لأيّ بنود تتعلّق بالإستحقاقات الدستوريّة والإنتخابية المقبلة، لكنّ الأكيد أنه لم يعد هناك من حاجز يمنع تقاربهما، وإبقاء الخلافات الإستراتيجيّة جانباً.
ويرى البعض أنه حتّى لو لم يكن هناك أيُّ تأثير للمصالحة حالياً في عمليّة تداول السلطة والمعركة الرئاسية المقبلة، إلاّ أنّه قدّ تكون لها مفاعيل مستقبليّة، خصوصاً بعد سقوط «إتّفاق معراب» ونشر «القوّات» لبنوده، وبالتالي فإنّ أيّاً من الطرفين، أي «القوات» و«المردة»، لن يقفا ضدّ بعضهما البعض في المعركة الرئاسية عام 2022، ولن يتكرّر سيناريو إنتخابات 2016.
من جهة أخرى، فإنّ المصالحة التي تمّت ستحظى بمتابعة من خلال اللجان المشترَكة بين «القوات» و«المردة» ولن تقف عند حدّ لقاء بكركي، وهذا الأمر يجعل كل الاحتمالات مفتوحةً على مصراعيها، ولا يجعل اللعبة السياسيّة محصورةً بخنادق إرتفعت بين المسيحيين واللبنانيين سابقاً.