نشرت وكالة synaps.network للمعلومات والأبحاث تقريراً لافتاً عن لبنان على موقعها الإلكتروني، للباحثين روزالي برتييه وجورج حداد، تناول سياسة الدولة اللبنانية الإنفاقية على أجهزتها الأمنية، مع بيانات ومقارنات بدول أخرى. ونظراً إلى أهميته تنشره "الصوت" معرّباً عن الإنكليزية:
Rosalie berthier & Georges Haddad
يلاحظ في لبنان انتشار الجيش والأجهزة الأمنية في شكل متزايد في الحياة اليومية. يتجلى هذا الإنتشار في صورة جلية في نقاط التفتيش واللافتات واللوحات الإعلانية، وفي تكاثر العسكريين المدججين بالأسلحة والملابس العسكرية.
لكن كثيرين من اللبنانيين والأجانب يحبذون هذا الانتشار، باعتبار أنه يحمي البلاد من التهديدات المتمثلة بالإجرام، الإرهاب، الصراع الطائفي، وعوامل استقرار اللاجئين ، فضلاً عن حروب الجوار والتخريب الخارجي. والملاحظ أن المواطنين اللبنانيين يبدون دعمهم المتزايد للقوات المسلحة، مما يدفع الحكومات الغربية إلى تعزيز برامج المساعدات المالية والتقنية المخصصة لهذه القوات.
هذا النمو الظاهر يتزامن مع مجموعة من تحركات خفية ولكنها ليست أقل أهمية، تتعلق بتوسيع الإنفاق العام اللبناني على قطاع الأمن. هذا الاتجاه يتضح في شكل أفضل في بيانات الموازنة المتعلقة بالجيش اللبناني، وقوى الأمن الداخلي ، والأمن العام وأمن الدولة ويترك آثارا عميقة في ما يتعلق بعسكرة المجتمع اللبناني والإهمال النسبي للقطاعات الحيوية الأخرى.
وبحسب معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، سجل الإنفاق السنوي للقوات المسلحة في الدولة اللبنانية نسبة 16% من كل نفقات الدولة العام 2017 ، وهذه نسبة مثيرة للقلق، إذ تشكل ضعف نسبة الإنفاق على القوات المسلحة في الولايات المتحدة وثلاثة أضعاف النسبة التي تخصصها الصين لهذه الغاية ، علماً أن هاتين الدولتين تتمتعان بأعلى إنفاق عسكري إجمالي في العالم.
جدير بالملاحظة هنا تطور موازنة القوات المسلحة بمرور الوقت، مقارنة بالوظائف الأساسية الأخرى للدولة. وتعكس البيانات التي نشرتها وزارة المال اللبنانية أن الإنفاق العام على الأفراد العسكريين والأمنيين تضاعف أربع مرات بين عامي 2005 و 2017 مما كان عليه للموظفين المدنيين ، مثل معلمي المدارس العامة والإداريين، إذ ارتفعت الرواتب والمزايا لأفراد القوات المسلحة من 45٪ إلى 60٪ من إجمالي إنفاق الدولة على الموارد البشرية .
هذا التوسع يسترعي الانتباه في شكل أكبر نظراً إلى جمود الإنفاق اللبناني العام على نطاق واسع. فالدولة اللبنانية تخصص ثلث موازنتها السنوية الإجمالية لدفع الفائدة على ديونها السيادية ( الثالثة الأكبر في العالم نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي)، في حين تخصص ما يقدر بـ 10 إلى 15٪ لدعم شبكة الكهرباء القديمة مما يترك مساحة ضئيلة للمناورة على الجبهات الأخرى. وبما أن الإنفاق العسكري يستهلك حصة متزايدة من موازنة ثابتة أخرى ، فإن قطاعات رئيسية أخرى ستعاني حتمًا. ورغم أن إنفاق لبنان النسبي على قواته المسلحة يمكن مقارنته بالأردن ، إلا أن لبنان يستثمر في التعليم أقل بكثير من الأردن.
يكمن القلق الإضافي في التفاوت بين الإنفاق الضخم من ناحية ، وبين الأداء الفعلي من ناحية. فمنذ العام 2007 ، كشفت العمليات القتالية الرئيسية للجيش اللبناني (لا سيما ضد المسلحين في مخيم نهر البارد الفلسطيني وفي عرسال على الحدود الشرقية) عن استعداد عسكري محدود. وقد وفَّر الجيش الخاص التابع لـ"حزب الله" ، والذي يحافظ على وجود قوي في شرق لبنان وجنوبه ، الدعم لقوات الدولة في العمليات الداخلية بعض الأحيان. وغالبًا ما يلاحظ تداعي ثكن الجيش ومراكز الشرطة ونقاط التفتيش في شكل مفاجئ.
تعكس أوجه القصور هذه حقيقة أن جميع أموال الدولة المتاحة تقريباً تذهب إلى الموارد البشرية ، على النقيض من المرافق والأجهزة والصيانة والخدمات اللوجستية. ففي لبنان ، تمثل الفئات الأخيرة 7٪ فقط من مجمل الإنفاق ، مقارنة بـ 60٪ في الولايات المتحدة. وﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﺬﻟﻚ ، ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻟﺒﻨﺎن في ﺸﻜﻞ كاﻣﻞ ﺗﻘﺮﻳﺒﺎً ﻋﻠﻰ اﻟﺪﻋﻢ اﻟﺨﺎرﺟﻲ ﻟﺘﻤﻮﻳﻞ اﻟﺘﻜﺎﻟﻴﻒ ذات اﻟﺼﻠﺔ ﺑﺎﻟﻤﻮﻇﻔﻴﻦ. أما المانح الرئيسي فهو واشنطن: العام 2017 ، قدمت الولايات المتحدة 250 مليون دولارمساعدة أمنية تراوح بين التدريب وبين المروحيات والصواريخ.
ويظهر هذا الإنفاق غير المتناسب على الموظفين في بند آخر من بنود الموازنة: كالبدلات والاستحقاقات التي تشمل الرعاية الصحية ، إجازة الأمومة ، والتعويض في حالة الوفاة ، وكذلك عمال المنازل والسائقين لكبار الضباط. وكل ما تم ذكره يمثل 23 ٪ من مجمل الإنفاق على الأفراد في القوات المسلحة ، مقارنة بـ9 ٪ في قطاع التعليم، إذ تمتد بعض هذه الامتيازات إلى أفراد الأسرة وللتقاعد، مما يولّد تأثير كرة الثلج حيث يتوسع الإنفاق إلى ما وراء نطاق الموظفين النشطين.
بيانات كهذه تسلط الضوء على حقيقة غير موثقة إلى حد كبير: فالقوات المسلحة اللبنانية هي على الأقل ذات أهمية نظراً إلى وظائفها الاجتماعية والاقتصادية ، على غرار أهمية دورها الأمني. يوفر الجيش وأجهزة الأمن فرص عمل نادرة وشبكة أمان اجتماعي لعدد لا يحصى من الشباب اللبنانيين ، هم في أشد الحاجة إليها. وفي الوقت نفسه تشكل وظائف كهذه بالنسبة إلى النخب اللبنانية، ولا سيما الوظائف الأعلى في الهرمية الأمنية، شكلاً قيّماً من تقاسم الحصص بين الطوائف.
وعلى سبيل المثال، استخدم الجهاز العسكري والأمني اللبناني العام 2009 ، ما يقرب من 11٪ من السكان العاملين ، أي ما يقارب 6٪ في الجيش وحده، بينما كان الجيش الفرنسي وهو أحد أكبر الجيوش في أوروبا ، يستخدم حوالي 1٪ في العام نفسه.
ويتساءل المراقب الساذج الذي يشاهد نقطة تفتيش لبنانية، حيث يلوّح جنود مسلحون للسيارات عَرَضاً كي تعبر يوما بعد يوم، عن مساهمة هذه الطقوس في أمن البلاد. ويمكن القول إن العدد الهائل من نقاط التفتيش هذه في لبنان تشكل في الواقع، عنصراً أساسياً للاستقرار من خلال وقاية آلاف اللبنانيين العاديين من العوز أكثر مما هي لردع العنف.
والواقع أن الثقل الاجتماعي والاقتصادي للقطاع الأمني هو نتيجة طبيعية ـ وربما ضرورية ـ لسياسات لبنان الكئيبة وللواقع الاقتصادي غير المنظم ، حيث تلقى غالبية الكفاءات اللبنانية صعوبة في إيجاد فرص عمل.
في هذا المجال، سيبقى السياسيون اللبنانيون ، غير الراغبين في إجراء إصلاحات هيكلية من شأنها أن تؤثر في مصالحهم التجارية الخاصة ، في دفع الموارد نحو قطاع أمني مزدهر ويوفر بدوره وظائف لأتباعهم. في الوقت نفسه، فإن صناع القرار في اوروبا وأميركا (المهووسين بالقضاء على الإرهاب واحتواء اللاجئين ) سيزيدون الاستثمار في الأجهزة الأمنية كطريقة ملائمة للمضي قدماً في سياستهم هذه.
بالطبع ، هناك عواقب كثيرة لـ"دولة الأمن" في المجتمع، إذ يتعرض المواطنون اللبنانيون ، ولا سيما النشطاء الشباب ، لأحكام قاسية وتعسفية تصدر عن المحاكم العسكرية في شكل متزايد. بدليل أن بعض المتظاهرين الذين كانوا يحتجون على أزمة النفايات العام 2015 اتُهموا بالإرهاب. وحتى انتقاد السياسيين عبر وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن يؤدي إلى أشكال من الترهيب تمارسه الأجهزة الأمنية. بعبارة أخرى، قد يستمر لبنان في مسار مألوف تتقلص فيه حرية التعبير – وحقوق الإنسان في شكل أوسع – في موازاة توسع القوات المسلحة.
- رابط التقرير الأصلي بالإنكليزية:
http://www.synaps.network/lebanese-economy-watchdog#chapter-4464819