صحيفة الجمهورية
الانتعاش الذي شهده الملف الحكومي في الأيام الاخيرة، كان أشبه بـ»الحَمل الكاذب»، العوارض الإيجابية التي رافقت المشاورات التي أجراها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لم تكن سوى شعور وهمي بأنّ الجنين الحكومي قد تَكوّن فعلاً داخل الرحم السياسي، ولم يبق أمامه سوى بضع خطوات لكي يخرج الى النور.
تلك هي حقيقة الواقع الحكومي، بكونه «طبخة بحص»، ذلك انّ التعقيدات الماثلة في طريق الحكومة أثبتت أنها أقوى من كل المحاولات الجارية لاستيلادها في هذه الفترة، ودفعت الجميع الى التسليم باستحالة بلوغ مرحلة «الحَمل الجدي» في ظل إصرار بعض الأطراف على الطلاق الكامل ورفض الالتقاء او التعايش تحت سقف حكومي واحد.
وهذه الصورة عكسها ايضاً البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي بعد لقائه رئيس الجمهورية في بعبدا، بقوله «انّ التعامل الحالي مع تأليف الحكومة ليس صحيحاً، وكأنّ كلّ واحد باتَ متشبّثاً بموقفه ومتمسّكاً بمطلبه، وانتهى الأمر. فخامة الرئيس يصغي الى الجميع، ولا يكفي أن يأتي أحدهم الى هنا ويقول له: هذا ما أريده. هذا ليس بحوار حيث كل واحد يحمل فقط ما يريده ويتمسّك به. ففي الحوار، على كل أحد أن يخرج من ذاته ومصالحه، ويضع نصب عينيه مصلحة الوطن، مُقتنعاً انّ هذه المصلحة تقتضي البحث في سُبل إنقاذ البلد».
هوّة واسعة
الواضح انّ المشاورات الرئاسية لم تتمكن من تضييق الهوة الواسعة التي تقطع طريق العبور بالحكومة الى غرفة الولادة، فلا الرئيس المكلف سعد الحريري في صدد التراجع عن لاءاته التي رفعها في وجه نواب «سنة 8 آذار»: لا لتمثيلهم على حساب «المستقبل»، لا لتمثيلهم بواحد منهم في الحكومة، لا لتوسيع الحكومة الى 32 وزيراً. ولا نواب «اللقاء التشاوري» في صدد التراجع عن إصرارهم بالتمثّل بواحد منهم حصراً، ولا بقبول أيّ حل يؤدي الى تمثيل شخصية تنوب عنهم في الحكومة، أيّاً كانت هذه الحكومة.
على انّ اللافت للانتباه في هذا الجو، هي جرعة التفاؤل الحذرة التي ألقاها الحريري على خط التأليف، الأمر الذي دفع الكثير من المعنيين بملف التأليف الى أن يتساءلوا عمّا دفعَه الى إطلاق هذا التفاؤل وبناءً على أي معطيات، خصوصاً انّ أرض التأليف لم تُنزع منها الاشواك التي تحول دون الإمساك بطرف خيط يقود الى مشروع حَل جدي للعقدة الحكومية، والسنّية على وجه التحديد. وهذا الفشل أكدته النتائج التي انتهت اليها المشاورات الرئاسية.
إستياء رئاسي
وعلى ما يكشف مواكبون لهذه المشاورات، فإنّ رئيس الجمهورية مستاء من انسداد الافق أمام محاولته إحداث اختراق إيجابي في جدار الازمة، ولا يخفي ذلك أمام زوّاره، مَقروناً باستغراب شديد وغير مفهوم أو مبرر لهذا التصلّب المريب في المواقف، الذي يبدو أنه خرج من إطاره السياسي، وانتقل الى حَدّ تغليب البعض العامل الشخصي على مصلحة البلد، وهو أمر لا يؤدي الّا الى مزيد من الارباك والتعقيد، في بلد يوشِك أن ينهار، تِبعاً لمجموعة من العوامل الاقتصادية وغير الاقتصادية الضاغطة على البلد من الداخل كما من اتجاهات خارجية مختلفة.
وبحسب هؤلاء الزوار فإنهم لمسوا لدى رئيس الجمهورية قلقاً جدياً من هذه المخاطر، الى حد انه أبلغَ هؤلاء الزوار ما مفاده «انّ المسألة ليست بسيطة، الضغوط هائلة علينا، والمخاطر التي تَتهددنا لا يمكن الاستهانة بها او الوقوف مكتوفي الايدي حيالها. لقد أصبحنا امام خطر وجودي علينا وعلى بلدنا، وإن بقينا على ما نحن عليه، فبالتأكيد نحن سائرون الى «المهوار». وبالتالي، صار لا بد من اتخاذ خطوات إنقاذية، لا يجوز ان «نَزرك» بعضنا البعض، بل المطلوب هو ان نتعاون جميعاً، وصار على الجميع التحَلّي بالمقدار الاعلى من المسؤولية».
أخرجوا اللقمة من الفم
وهذه الصورة تكاد تكون هي نفسها في عين التينة، وبحسب معلومات «الجمهورية» فإنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري راهَن مع انطلاق المشاورات الرئاسية على أن تُفضي الى إيجابيات جدية هذه المرة، تَصوغ المخرج الملائم للعقدة الحكومية، خصوصاً انّ الافكار المطروحة خلالها قابلة لأن تشكّل المفتاح الملائم للحل، وتحقّق الغاية المَنشودة بتشكيل حكومة وحدة وطنية تضم جميع الاطراف، وتعكس بشكل واضح نتائج الانتخابات النيابية.
وتضيف المعلومات انّ عدم التجاوب مع الجهود الرئاسية واصطدامها ببعض اللاءات، كان له الأثر السلبي البالغ لدى رئيس المجلس، فعَبّر عن امتعاض واضح بقوله: «لا أستطيع، أمام هذا الوضع، الّا أن أكون أكثر من مستاء الى حد الغضب. أصبح الوضع لا يُحتمل، ولا يجوز ابداً ان نُكمل بهذه الطريقة. البلد يسقط من بين أيدينا، وكثيرون يتفرّجون على هذا السقوط. مع الأسف، لم يعد ينفع الكلام، لأن ليس هناك من يسمع».
ويضيف بري: ما يبعث على الشعور بالضيق والاستياء هو «اننا صرنا في آخر الطريق، ووصلت «اللقمة» الى الفم، ولكنهم أبعدوها في آخر لحظة. أمّا لماذا؟ فلا أعرف. هذا الوضع يحتاج الى تعقّل، والامور لا تُحلّ بالنكايات والكيديات وبشَخصنة الامور. يجب ان نتحلى بالمسؤولية ونوقِف هدر الوقت».
وبحسب المعلومات، فإنّ الايجابية التي سادت اللقاء بين بري ورئيس الجمهورية، والتي صاغَتها أفكار حول مخارج وحلول اعتبرت مشجّعة، دفعَت رئيس المجلس الى أن يُغَلّب التفاؤل على التشاؤم، خصوصاً انّ الملف الحكومي صار أمام فرصة جدية لأن يَنحى في الاتجاه الصحيح، ويقدّم الهدية الحكومية الى اللبنانيين قبل الاعياد. وعَزّزت ذلك الليونة الجدية التي أبداها رئيس الجمهورية حيال عدم مُمانعته تمثيل نواب اللقاء التشاوري بواحد منهم في الحكومة، وهو أمرٌ اعتُبر مهماً ومتقدماً.
إلّا أنّ هذه الليونة، كما تؤكد المعلومات، لم تتمكن من ان تفرض نفسها في اللقاء بين عون والحريري، حيث رفض الرئيس المكلف تمثيل هؤلاء، حتى انّ الموقف من إشراكهم بواحد يختارونه، كان ضبابياً، علماً انّ أوساطاً قيادية في تيار «المستقبل» ما زالت تتحدث عن رفض الحريري إشراك نواب 8 آذار في الحكومة، لا عبر نائب منهم ولا عبر شخصية تمثّلهم.
وعلمت «الجمهورية» انّ موضوع إشراك نواب «اللقاء التشاوري» في الحكومة، إضافة الى مسألة استقبالهم من قبل الرئيس المكلف، كانا محل بحث بين بري والحريري في اتصال هاتفي جرى بينهما قبل سفر الأخير الى لندن. وخلاصة هذا الاتصال انّ الرئيس المكلف ما زال على موقفه، إن لجهة رفض استقبالهم او لجهة رفض تمثيلهم في الحكومة، او حتى من يمثّلهم.
طرد وتهجير!
وبحسب المعلومات فإنّ خلاصة الاتصال بين بري والحريري أشعَرت رئيس المجلس بعدم الارتياح، واستغربَ الاصرار على عدم استقبالهم، الى حدّ أنه أكّد انه لا يجوز التعاطي مع هؤلاء النواب بهذه الطريقة، وكأن لا وجود لهم، ولا حيثية لهم، «يعني، بَعد شْوَي سيقولون انّ الحل بطَرد هؤلاء النواب من المجلس أو تهجيرهم الى خارج لبنان، هذا التعاطي غير مقبول».
وأكدت مصادر موثوقة لـ»الجمهورية» انّ عدم استقبال النواب الستة من قبل الرئيس المكلف، لا يحظى ايضاً بتَفهّم لدى رئيس الجمهورية، الذي صارحَ نواب «اللقاء التشاوري»، خلال لقائه الأخير بهم قبل 3 أيام، بما مفاده، انه مُتفهّم لمطلبهم، ولا يرى أي مبرّر لعدم استقبالهم من قبل الرئيس المكلف. ونُقِل عنه قوله، بعدما شرح له النواب طلبهم لقاء الحريري والمرونة التي أبدوها حياله: «ترون أنني استقبلتكم بمبادرة منّي وأنتم لم تطلبوا موعداً، أنا معكم في هذه النقطة لأنّ الوظيفة مسؤولية، سواء من قبل رئيس الجمهورية او رئيس مجلس النواب او رئيس الحكومة، يجب أن يستقبلوا الجميع، ولا يسكّروا أبوابهم امام أحد».
3 وجوه
على انّ هذا الجمود السلبي في الصورة الحكومية، تنتظره محاولة لإعادة تحريكه بعد عودة الرئيس المكلف الى بيروت، في لقاء مرتقب بين عون والحريري، في محاولة لتليين موقفه من تمثيل «سنة 8 اذار». واستباقاً لهذا اللقاء المنتظر، قال مرجع سياسي لـ»الجمهورية»: انّ للحل 3 وجوه:
– الأول، أن يؤكد رئيس الجمهورية موقعه كـ»بَي الكِل» بتقديم نفسه «بَي الحَل»، ويُبادر الى التراجع ويقول صراحة إنه يقبل بالتخلّي عن الوزير السنّي من الحصة الرئاسية لصالح تمثيل «سنة 8 اذار».
– الثاني، أن يتراجع الرئيس الحريري عن رفضه ويقبل بتمثيل نواب اللقاء التشاوري في الحكومة، ويترك غيره يعطيهم هذا التمثيل من حصته، من دون أن يضع «فيتو» على توزير أحدهم، أو يشترط على من يريد أن يعطي من حصته أن يكون التمثيل من خارجهم. إذ لا أحد يستطيع أن يضع «فيتو» على أحد، ولا أحد له الحق في التدخل او الاعتراض على أي إسم يُطرَح من اي طرف، إذ انّ كل طرف يُسمّي من يشاء، ويعطي من حصته لمَن يشاء.
– الثالث، أن يبادر نواب «اللقاء التشاوري» الى التراجع عن تصلبهم، وتفويض رئيس الجمهورية حسم مسألة تمثيلهم بالطريقة التي يراها مناسبة.
إلّا انّ هذه الوجوه الثلاثة لا تبدو مُيسّرة حتى الآن، فرئيس الجمهورية لم يعلن صراحة بعد أنه سيتراجع، فضلاً عن إشارة بعدم التراجع أطلقها الوزير جبران باسيل قبل أيام قليلة، من خلال تأكيده التمسّك بـ11 وزيراً كحصة لرئيس الجمهورية و»التيار الوطني الحر». وهناك معلومات ترددت في بعض الأوساط تفيد بأنّ باسيل ينتظر أن يتم اللقاء بينه وبين الرئيس عون ضمن المشاورات التي يجريها مع الاطراف السياسية، والتي يفترض أن تشمله كون «التيار الوطني الحر» معنيّاً بالملف الحكومي. وفي هذا اللقاء سيُبدي باسيل موقف التيّار ممّا هو مطروح.
ويبرز هنا ما نُقل عن مصادر «التيار الوطني الحر»، ويفيد بأنّ «ما يتردّد من انّ الرئيس عون يُطالب بالثلث المعطّل هو غير صحيح، لأنّ هدف الرئيس أن تكون الحكومة حكومة وفاق وطني، وانّ الاتصالات لم تَنته، في انتظار عودة الحريري لتقييم الوضع ومواقف الاطراف من خلال مشاورات رئيس الجمهورية. علماً أنه سبقَ لرئيس الجمهورية أن توافقَ مع الرئيس المكلف بأن يتمثّل بـ4 وزراء يتابع من خلالهم عمل الحكومة». ويجدر هنا لَحظ الاشارة الى انّ الحصة الرئاسية هي 4 وزراء لا 5، فهل يستبطِن ذلك انّ قرار التخلّي عن الوزير الخامس قد اتّخِذ فعلاً؟
أمّا الرئيس الحريري، فثمّة قرار نهائي بعدم الانصياع للضغوط، ورفضه تمثيل «سنّة 8 آذار» نهائي. والأمر نفسه بالنسبة الى النواب السنّة، الذين رَسموا سقفهم النهائي بتمثيلهم المباشر وليس بمَن ينوب عنهم و»حزب الله» معهم. ما يعني، في هذا الجو، انّ الحل مفقود، والحكومة بعيدة المنال.
سقوط صيَغ
اللافت للانتباه انّ هذه الاجواء المسدودة لناحية تمثيل «سنّة 8 اذار»، أبقَت صيغة «حكومة الـ 30» كشكل نهائي للحكومة، وأسقطت كل الطروحات حول توسيع الحكومة، ولاسيما صيغة الـ 32 وزيراً، التي اصطدمت بالرفض القاطع من قبل الرئيس المكلّف، وأيضاً أسقطت طرحاً بالذهاب الى حكومة «تكنوقراط» على اعتبار انّ حكومة كهذه لا تشكّل حلاً بل تشكّل مشكلة، والبلد يحتاج الى حكومة قوية قادرة على اتخاذ القرارات حتى ولو كانت قرارات غير شعبية، وحكومة التكنوقراط تحمل ضعفها في إسمها، ولن يكون في مقدورها ان تحكم أو تتخذ أي قرار.
كذلك أسقطت طرحاً بتصغير الحكومة الى 18 وزيراً، على اعتبار انّ هذا التصغير يعيد الامور الى الوراء، ويعيد خلط الاوراق بطريقة شديدة السلبية، إذ بدل أن يحلّ مشكلة يفتح الأمور على مشكلة أو مشكلات جديدة، لأنّ هذا التصغير لا يحلّ مسألة تمثيل «سنّة 8 آذار»، كما أنّه يقود الى استبعاد قوى سياسية، وتحديداً مسيحية، عن الحكومة، ويطرح إشكالية مصير تمثيل تيار «المردة»، وحجم تمثيل «القوات اللبنانية»، أي انه يُعيد فتح بازار الحصص والأحجام على مصراعيه، ما يعني فتح مشكلة أكبر وأعمق.
تهديدات بالتخوين!
والجدير ذكره في هذا السياق، ما كَشفه مرجع سياسي لـ»الجمهورية»، من انّ البلد تَجاوز قطوعاً سياسياً خطيراً في الايام الاخيرة، بعد طَي الفكرة الرئاسية بإرسال رسالة الى المجلس النيابي حول الموضوع الحكومي. وسَبق لبري أن نَبّه من انّ مثل هذه الرسالة قد تؤدي الى إحداث فتنة في البلد تقوده الى الخراب، علماً انّ كتلاً نيابية اتّخذت قرارها مُسبقاً بمقاطعة جلسة مجلس النواب في حال دُعي إليها لمناقشة رسالة رئيس الجمهورية، وتحديداً تيار «المستقبل»، وتردّد ايضاً أنّ كتلتَي «القوات اللبنانية» والحزب «التقدمي الاشتراكي» قد يحذوان حذو كتلة «المستقبل»، إضافة الى كتلة الرئيس نجيب ميقاتي ونواب سنّة آخرين مستقلين، وذلك بالتوازي مع نقاش اعتراضي على الرسالة ضمن مجالس سنّية سياسية وغير سياسية، تواكب مع رسائل نَصيّة أرسلت الى النواب السنّة تحديداً، من رقم هاتفي مجهول تهدد بتخوينهم إذا حضروا الجلسة، جاء فيها: «الى النواب السنّة، كل من يحضر منكم الجلسة النيابية التي ستعرض فيها رسالة رئيس الجمهورية، هو خائن». وتمّ إبلاغ الأجهزة الأمنية هذا التهديد.
سترات صفر في إسرائيل
من جهة ثانية، وفي ظل أزمة الأنفاق التي افتعلتها إسرائيل على حدود لبنان الجنوبية، بدأ رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو يواجه مزيداً من الضغوط من جانب حزبه اليميني، مُضافاً إليها تَظاهر مئات الأشخاص في تل أبيب أمس وعشرات في القدس مُرتَدين «السترات الصفراء»، على غرار المحتجّين في فرنسا اعتراضاً على غلاء المعيشة المُعلن عنه لسنة 2019. وحمل هؤلاء العلم الإسرائيلي ولافتات كُتِب عليها عبارات رافضة غلاء المعيشة، ومؤكدين أنهم يريدون اتّباع النموذج الفرنسي.
وكانت الصحافة الإسرائيلية قد تحدّثت هذا الأسبوع عن ارتفاع مُرتقب خلال السنة المقبلة لأسعار المنتجات الغذائية والكهرباء والمياه، واشتراكات الهاتف والضرائب المحلية. ويأتي هذا الارتفاع تحت تأثير انخفاض الشيكل مقابل الدولار واليورو، في حين أنّ كلفة المعيشة مرتفعة أصلاً في إسرائيل.