بعد عامين على دخوله أشد أزمة مالية واقتصادية في تاريخه، يبدو أن أوضاع لبنان الاقتصادية تتجه من سيئ لأسوأ، إذ تظهر من حين لآخر مؤشرات تؤكد ذلك، مثل استمرار تدهور العملة وتصاعد أسعار السلع الأساسية، اللذين دفعا معظم اللبنانيين إلى ”مستنقع الفقر“.
وتشير بيانات رسمية ومستقلة إلى أن الدين العام أوشك على تخطي حاجز الـ100 مليار دولار، فيما تضاعفت أسعار بعض السلع لأكثر من 500%، وواصلت الليرة هبوطها لتخسر أكثر من 95% من قيمتها أمام الدولار الأمريكي، في الوقت الذي بدأت فيه بعض المصارف اللبنانية بإغلاق فروعها في عدة مناطق وتقليص موظفيها بشكل كبير.
انفجار اجتماعي
دفعت تلك التطورات منظمة تابعة للأمم المتحدة، إلى إطلاق تحذيرات من حدوث انفجار اجتماعي، وسط ارتفاع غير مسبوق في معدل الفقر في بلد تم تصنيفه من قبل المؤسسات الدولية سابقا، بأنه متوسط الدخل بمعدل دخل فردي تجاوز 7 آلاف دولار عام 2018.
وفي تقرير نشرته أخيرا، نبّهت منظمة ”الإسكوا“ التي تضم معظم الدول العربية، إلى أن معدل الفقر في لبنان البالغ عدد سكانه نحو 6.5 مليون نسمة، ارتفع من نحو 28% عام 2019، إلى 55% العام الماضي، وحوالي 82% منتصف عام 2021.
وقالت ”الإسكوا“ في تقريرها إن ”الصدمات المتداخلة لسعر الصرف، الذي كان ثابتاً منذ مطلع القرن، ولّدت ضغوطًا هائلة، فانخفضت قيمة العملة وارتفعت معدلات التضخم في الفترة من حزيران/ يونيو 2019 إلى حزيران/ يونيو الماضي، بنسبة 281%، فتدنى المستوى المعيشي للسكان في لبنان، وانتشر الحرمان بشكل كبير“.
وعلى الرغم من عقد أكثر من 15 جلسة مفاوضات مع صندوق النقد الدولي العام الماضي، لصياغة خطة إنقاذ، فإن لبنان فشل في التوصل إلى اتفاق مع الصندوق بسبب الخلافات الشديدة بين مختلف القوى السياسية والحزبية اللبنانية.
انفجار بيروت
جاء انفجار بيروت الكارثي في آب/ أغسطس العام الماضي، ليقضي على أي أمل في الوصول إلى اتفاق آنذاك بعد أن استقالت حكومة حسان دياب، ودخل لبنان في فراغ سياسي دون حكومة، وبمجلس نيابي شبه معطل لأكثر من عام.
ولا توجد، حتى الآن أي بوادر على استئناف تلك المفاوضات، على الرغم من تأكيدات رئيس الوزراء نجيب ميقاتي على العودة للمحادثات الشهر الماضي، فيما تقول مصادر رسمية إن الأمور ستبقى معطلة حتى بعد بداية العام الجديد.
وما يشير إلى تفاقم الأزمة في هذا البلد العربي الذي عانى من حرب أهلية استمرت لأكثر من 15 عاما، هو استمرار تراجع العملة الوطنية بسبب المضاربات المالية والتناحرات السياسية والهبوط الحاد في الأصول الأجنبية لمصرف لبنان (البنك المركزي) والوضع الصعب الذي تعيشه معظم البنوك في لبنان.
تدهور الليرة
ووصل سعر الليرة في السوق السوداء الأسبوع الجاري، إلى نحو 24 ألفا أمام الدولار الأمريكي، مقابل سعر رسمي ثابت عند 1507، وهو ما أدى إلى استمرار ارتفاع أسعار معظم السلع الاستهلاكية وتفاقم هوة الفقر في غياب أي زدياة في الأجور.
وما فاقم هذه المشكلة هو الزيادة الضخمة في سعر الوقود الذي يعتبر عاملا حاسما في حركة الأسعار، إذ قفز سعر صفيحة البنزين (20 لترا) من حوالي 45 ألف ليرة (30 دولارا) بالسعر الرسمي للعملة إلى نحو 320 ألف ليرة (210 دولارات) حاليا.
وفي تصريحات الأسبوع الجاري، قال محافظ مصرف لبنان رياض سلامة: ”هناك من يريد تحميلي مسؤولية الأزمة، وأنا لست سوى جزء من مؤسسة كبيرة“.
إغلاق مصارف
ووسط هذه التطورات، برز أخيرا اتجاه من قبل بعض المصارف في لبنان، لإغلاق فروعها، في عدة مناطق وإطلاق عمليات تسريح كبيرة للموظفين، بسبب الصعوبات المالية التي تعانيها جراء الأزمة المالية، التي وصفها البنك الدولي بأنها من أسوأ الأزمات الاقتصادية التي شهدتها الدول منذ أكثر من 150 عاما.
وقال محمد البزري، مدير فرع بنك ”عودة“ اللبناني في مدينة صيدا الجنوبية إن ”بعض البنوك بدأت أخيرا بخفض عملياتها وتقليص عمالتها بسبب الصعوبات التي تعانيها“.
وبحسب مصادر مصرفية في بيروت، أغلق ”بنك البركة“ و“بيت التمويل“ فرعيهما في مدينة صيدا عاصمة جنوب لبنان ومناطق مختلفة، فيما تعتزم مصارف أخرى اتخاذ خطوات مماثلة في إطار توجه البنك المركزي لإعادة هيكلة القطاع المصرفي.
ويعمل في لبنان نحو 70 مصرفا وطنيا وأجنبيا، وهو ما أدى إلى تصنيفه على أنه يعاني من ”تخمة مصرفية“ نسبة لعدد السكان.
وقبل الأزمة، كان الجهاز المصرفي اللبناني يعتبر من ضمن الأكبر في المنطقة العربية، إذ تبوأ المرتبة الخامسة بين القطاعات المصرفية في المنطقة من حيث الأصول، والمرتبة الثانية بالودائع بحسب ”اتحاد المصارف العربية“ الذي قدر موجودات وودائع بنوك لبنان بأنها تتراوح بين 7-8% من إجمالي أصول وودائع القطاع المصرفي العربي.
وأشارت بيانات لمصرف لبنان، إلى أن إجمالي أصول بنوك لبنان بلغ نحو 184 مليار دولار بنهاية أيلول/ سبتمبر الماضي فيما بلغت الودائع حوالي 147 مليار دولار.
وتعاني بنوك لبنان من نقص حاد في الدولار الأمريكي، بسبب تمويلها واردات ضخمة في العامين السابقين للأزمة، فيما لم يعد مصرف لبنان قادرا على سد حاجات البنوك من العملة الصعبة نظرا لأنه يعاني هو نفسه من تراجع كبير في الأصول الأجنبية.
مصرف لبنان
وأظهرت بيانات مصرف لبنان أن تلك الأصول تقلصت بنحو 700 مليون دولار في شهر أيلول/ سبتمبر، ليصل إجمالي الخسائر إلى ما يقارب 7.1 مليار دولار خلال عام واحد.
وجاء في تقرير نشره المصرف الأسبوع الماضي، أن موجوداته الأجنبية بلغت حوالي 18.8 مليار دولار نهاية أيلول/ سبتمبر مقابل 19.5 مليار دولار نهاية آب/ أغسطس، وحوالي 25.9 مليار دولار نهاية أيلول/ سبتمبر العام الماضي.
وبذلك تكون الموجودات الأجنبية للمصرف قد وصلت إلى أدنى مستوى لها منذ نيسان/ أبريل 2009 عندما بلغت نحو 19.3 مليار دولار، بحسب التقرير.
وشكّل حجم الموجودات، نهاية أيلول الماضي نحو 40% فقط، من أعلى مستوى لها بلغ نحو 45.2 مليار دولار نهاية أيار/ مايو 2018.
وأرجع محافظ مصرف لبنان هذه الأزمة إلى تراكم الدين الذي وصل حتى نهاية أيلول/ سبتمبر، إلى 98 مليار دولار نتيجة الإنفاق الضخم والعجوزات المالية والتجارية في السنوات السابقة، فيما يعزو خبراء أيضا الأزمة إلى تفشي الفساد على نطاق واسع.
مؤشر الفساد
بحسب تقارير دولية، يعتبر لبنان من أكثر الدول فسادا، إذ أظهر ”مؤشر مدركات الفساد“ لعام 2020، الذي أصدرته ”منظمة الشفافية الدولية“ في ألمانيا، أن لبنان جاء في المرتبة الـ 149 ضمن 180 دولة وحصل على رصيد متدنٍ بلغ 25 نقطة من 100 نقطة متراجعا بـ5 نقاط منذ عام 2012.
وأظهر المؤشر أيضا أن مرتبة لبنان تراجعت إلى الـ 149 العام الماضي من الـ 137 عام 2019، والـ 138 عام 2018، رغم وعوده لمؤتمر المانحين في باريس عام 2018 أنه سينفذ برنامجا اقتصاديا شاملا يتضمن إجراءات لمعالجة الفساد وتعزيز الشفافية.