المصروف بالدولار والمدخول بالليرة
تعتمد الدولة اللبنانية في مصروفها على الدولار، فيما مدخولها يرتكز بشكل أساسي على الليرة. وما تؤمّنه الدولة من مدخول بالدولار، ضئيل نسبياً، ولا يؤمّن الحاجة الكاملة. وهو ما يخلق عجزاً في ميزان المدفوعات. وفي ظل الأزمة الاقتصادية، تصبح عملية تبديل الليرة بالدولار هي عملية سحب غير مباشر لاحتياطي الدولار في مصرف لبنان. لذلك، ولسد الفجوة، ليس أمام الدولة سوى زيادة التصدير أو الاعتماد على السياحة والخدمات. لكن في ظل ضعف التصدير وتراجع السياحة والخدمات بشكل قياسي، لم يعد أمام لبنان سوى الاستدانة.
وهذا الواقع "مستمر منذ مطلع التسعينيات، لكن تداعياته لم تكن ظاهرة بهذا القدر من الوضوح الحاصل اليوم، ولم يكن يفرض علينا الاستدانة بهذه الطريقة، لأن ديننا العام وإنفاقنا كانا صغيرين، في حين أن إنفاقنا السنوي اليوم يتراوح بين 5 و6 مليار دولار"، وفق ما يقوله الخبير الاقتصادي جاسم عجاقة في حديث لـ"المدن".
الاستدانة من الأسواق المالية
الاستدانة المباشرة من المصارف التجارية اللبنانية ما عادت آلية رابحة بالنسبة للمصارف، التي كانت ترى الاكتتاب بسندات اليوروبوند مكسباً مضموناً، فيما الدولة كانت ترى في إصدار السندات حلاً سحرياً لتأمين الأموال، خصوصاً وأن صندوق النقد الدولي حذّر المصارف من الاكتتاب بالسندات اللبنانية بفائدة منخفضة، أي أن الصندوق يقول للمصارف لا تقرضوا الدولة بفوائد منخفضة. وعدم إقراض المصارف للدولة، دفع وزارة المالية للبحث عن مقرضين جدد في الأسواق المالية العالمية، التي قد تشمل المصارف والمؤسسات المالية اللبنانية وغير اللبنانية.
والتوجه نحو الأسواق العالمية احتاج إلى عامل إغراء، تمثّل بالفوائد المرتفعة التي حددها السوق. وتلك الفوائد، حسب عجاقة "هي إنعكاس لرؤية المستثمرين للسندات اللبنانية، وتعكس مستوى المخاطر التي يراها المستثمرون. لكن في الوقت عينه، الفوائد المرتفعة تؤدي إلى ضمان الاستثمار وحصول الدولة على الأموال".
ويشير عجاقة إلى أن "لبنان مرغم على إصدار سندات بفائدة السوق وإن كانت مرتفعة. فجذب الاستثمارات يعني بقاء البلاد في دائرة التصنيف العالمي، فيما الخروج من الدائرة يعني عدم القدرة على إصدار سندات، لأن أحداً لن يكتتب بها بسبب غياب الثقة حول قدرة الدولة على دفع مستحقاتها".
سلبية الإصدار بفوائد مرتفعة، تتجلّى بزيادة الاستحقاق السنوي على الدولة "وهي مسؤولية على الدولة تحملها لأن ما يحصل هو نتيجة سياسات الحكومات المتعاقبة". وحسب عجاقة، "الوضع سيستمر على ما هو عليه لحين الوصول إلى إمكانية زيادة التصدير والحصول على الدولار. فما يجبرنا على الاستدانة بفوائد مرتفعة هو أن إنفاقنا بالدولار متزايد".
الضرائب آتية
ينظر الخبير الاقتصادي إيلي يشوعي إلى عملية إصدار سندات يوروبوند بفوائد مرتفعة، إنطلاقاً من كونها "برهان على إفلاس الدولة مالياً وسياسياً واقتصادياً. ففي حين تسجل الفوائد العالمية نقطة أو نقطتين، يتجه لبنان للإستدانة بفائدة 14 نقطة، وهو مجبر على ذلك لإغراء المستثمرين. وهذا الإجراء سيجبرنا على دفع فوائد لا تقل قيمتها عن 300 مليون دولار سنوياً". وهذه القيمة، حسب ما يقوله يشوعي لـ"المدن"، سيدفعها الشعب "عبر ضرائب جديدة ستسجل في موازنة العام 2020 بصور مختلفة، تماماً كما جاء في موازنة العام 2019".
من جهة ثانية، فإن المستثمرين يسارعون للاكتتاب ليس فقط من أجل الحصول على فوائد مالية مباشرة، فالرهان على قدرة الدولة على دفع المستحقات في ظل الظروف المالية والاقتصادية الحالية، هو رهان غير مشجّع، وبالتالي، يتطلع المستثمرون لضمان أرباحهم عبر قنوات أخرى، أبرزها "البترول وخصخصة الخدمات العامة ومشاريع الدولة، بالإضافة إلى الدفع الدولي باتجاه فرض ضرائب على الناس". وبرأي يشوعي "الناس غير مضطرة لإعطاء أموالها لسياسيين أفرغوا الدولة وخزينتها. لذلك على الناس التحرك سريعاً".