تأكيد على الفشل
يُقال في علم النفس، أن الاعتراف بالمشكلة يُسهّل حلّها. لكن الاعتراف وتكرار المشكلة رغم وضوح الحل، يعني أن المريض لا يريد الخروج من أزمته. وهو حال الطبقة السياسية التي تعترف بأزمتها، ومع ذلك تُدخل البلاد وأهلها في دوامة مفرغة ليس فيها حلٌ حقيقي، وإنما هروب للأمام.
لتأكيد عجزها، اعترفت قوى السلطة في مقدمة مشروع موازنتها للعام 2020، بفشل موازناتها المتتالية بعد الحرب الأهلية، وكذلك فشل إجراءاتها المالية والتنموية واقتراحات التصحيح. وبعد أكثر من ربع قرن على تكرار الفشل، رأت القوى الحاكمة أنه "من الضروري جداً أن تقوم الحكومة اللبنانية بانعطافة كبيرة في مجال إدارة الوضع المالي وفي مقاربة الوضع الاقتصادي والتنموي والاستثماري بشكل مختلف، يترجم في أرقام الموازنة وفي الخيارات الأساسية وفي طريقة التعاطي مع المال العام".
وصايا للإصلاح
الاعتراف بالعجز استُتبِع بالتوافق على خطوط عريضة لإنقاذ ما تبقى من اقتصاد ومالية عامة. وعلى درب الإصلاح، حمّلت القوى السياسية نفسها أربع عشرة وصية لتسترشد بها خلال وضعها موازنة العام 2020.
تنطلق الوصايا من العودة إلى القانون، عبر العودة إلى روحية الدستور والقانون، والحفاظ على المال العام وحسن إدارته. وضع موازنة عامة منطقية. الانتهاء من المسائل المعلقة. أي امتصاص كافة المتأخرات المحقة، والتقيد بجدول واضح لذلك، لتقليص مشكلة قلة الثقة في النظام، وكلفة إدارة المخاطر. استرداد كل ما أخذ من الدولة بشكل يخالف الأصول. إعادة تحديد حصة الدولة من كافة المداخيل التي لها علاقة بالعمل العام. تحديد شبكات الأمان عبر توجيه الإنفاق العام بشكل وافٍ نحو شبكات الأمان الاجتماعية الأساسية.
وتضمنت الخطوط العريضة، وضع أولويات واضحة وصارمة لمشاريع البنى التحتية. والكف عن الإنفاق في كافة المجالات بمردود متدنّ. تحفيز الإنتاج بالسياسات الضريبية المناسبة، ودفع الرساميل باتجاه القطاعات التي تؤمن فرص عمل وقيمة مضافة عالية. وضع أنظمة تغريم وضرائب على من يضر بالبيئة بأي شكل كان، تأميناً لمستقبل أفضل وتخفيضاً لأكلاف الدواء والاستشفاء، وحفاظاً على السياحة والزراعة والمياه. تحصين ممتلكات الدولة وأموالها عبر وقف التعدي على الأملاك العامة بأي شكل كان. التوقف عن استباحة جهاز الدولة عبر إعادة تحديد الملاكات والأعداد الضرورية في كل الأسلاك بشكل جدي. إدخال التصحيحات الضرورية على نظام التقاعد. بناء إدارة عامة قادرة وفعالة، بعد سنوات طويلة من التهشيم الذي أصابها. تخلص الدولة من الوحدات والمؤسسات والإدارات التي انتفت الحاجة إليها، وأيضاً من التي انشئت لأسباب استثنائية.
إستحالة التغيير
من مؤشرات الأزمة البنيوية التي تصيب لبنان، هو استمرار الفساد، وخصوصاً المتعلق بالتوظيف العشوائي في إدارات الدولة، نظراً لاعتبار السلطة إدارات الدولة مكاناً لمكافأة الجمهور على ولائه لها. ومع ذلك، تمتدح السلطة نفسها لأنها ستقوم بإصلاح ما أفسدته منذ مطلع التسعينيات. علماً أن وكالات التصنيف الائتماني (فيتش، ستاندرد أند بورز، موديز) لا تثق بالإجراءات التي تقوم بها السلطة تحت شعار الإصلاح.
ومؤشرات غياب الثقة تقبع في وصايا الموازنة نفسها، وتحديداً في ما يتعلق بالرغبة في تقليص أعداد موظفي الإدارات العامة "للتوصل إلى الحجم المناسب حيث يجب، وتعبئة الشواغر حيث يجب، والعمل على اتخاذ الإجراءات اللازمة في الحالات التي جرى فيها تخطي القانون، وإزالة كل حالات التوظيف الاستثنائية تدريجياً، وتوحيد التعويضات والتقديمات بين الأسلاك، وازالة كل الفوارق غير المبررة"، فضلاً عن الرغبة في "إعادة الموازنة الحقوق والإمكانات إلى الإداريين وأن تحتضنهم وتؤمن مستلزمات استقلاليتهم". ناهيك بإعادة النظر بالوحدات التي يجب التخلي عنها لأنه "أصبح من الضروري جداً بعد عقود من المماطلة والتهرب، أن تتخلص الدولة من الوحدات والمؤسسات والإدارات التي انتفت الحاجة إليها".
النقاط الثلاث الواردة أعلاه، هي اعتراف علني بالفساد، ما يستدعي أوّل الأمر تدخل التفتيش المركزي وكافة الهيئات الرقابية لتحديد المسؤوليات ومعاقبة المرتكبين. إذ لا يصح الإصلاح بإغفال المرتكبين. فعشوائية التوظيف رتّبت لسنوات أكلافاً مرهقة على الخزينة العامة. ومن يعتقد أن التغيير حتمي بمجرد إقرار وقف التوظيف لمدة ثلاث سنوات، فهو واهم، بدليل فضيحة توظيف 5000 موظف، أكدت كل القوى السياسية تورطها فيها.