تصدّعت أسس البلد التي نخرها الفساد والواسطة والنهب المنظّم "المشرّع" وآن زمن السقوط... ما شهدناه أمس الخميس من طوابير على مداخل محطات المحروقات أنذر بالكثير، وإنْ كانت الأزمة "مفتعلة" كما يدّعي البعض، أو حقيقية لا يريد أحد الإعتراف بها لحسابات واعتبارات مالية وسياسيّة، فإنّها تكشف عن بلد لم يعد يحتمل الحديث المبتذل عن الإصلاح والتقشف الصوري.
حدّت المصارف بأغلبها من منح المواطنين قروضاً خصوصا تلك المتعلقة بشراء سيارة. أبعد من ذلك، ذهب البعض إلى إيقاف هذا النوع من القروض، وخفّضت المصارف بشكل كبير التحويلات المالية من الليرة إلى الدولار، وأكثر المؤسسات والشركات التي كانت تصرف رواتب موظفيها بالدولار تحوّلت إلى الليرة، وتطول قائمة الإجراءات التي اتخذت في السوق. وأمام هذا المشهد المثير للقلق توقف إلى حد كبير التداول بالدولار بغية حفاظ من يمتلكه عليه، في السوق في حين بقي المواطن وحيداً مجبراً على تسديد قروضه التي حصل عليها مسبقاً بالدولار أن يسددها بالعملة نفسها.
شح الدولار في السوق أصاب الكثير من القطاعات في لبنان بالجنون مع قيام الصرافين باتخاذ خطوة طبيعية جداً والمتمثلة برفع سعر الدولار أمام الليرة على قاعدة "العرض والطلب"، لكن مصرف لبنان غضّ النظر وتجاهل الأزمة، فوجدت محطات الوقود نفسها أمام الخيار الأصعب وهو الإضراب المفتوح، لكن كلام الليل يمحوه النهار، فبعد "تسرعها" باتخاذ هذا القرار عدلت عنه بعد اجتماع النقابة إلى رئيس الحكومة سعد الحريري، وقد نجح الأخير في حقن "إبرة المورفين" التي لن يصل مفعولها إلى الأزمة الحقيقية والتي ستكبر تباعاً.
إعلان سلامه عزمه على وضع آلية لتأمين الدولار الاميركي لبعض القطاعات المستوردة، يدين نفسه ويكشف عن أزمة أكبر. تقول الباحثة الإقتصادية محاسن مرسل، في حديث مع "لبنان 24"، إنه عندما يعد المركزي بذلك فإنه يؤكّد على انقسام سوق القطع بحيث يبقى سعر الدولار ثابتاً عند مصرف لبنان في حين يتحكم بالسوق الموازي قانون العرض والطلب والذي نتج عنه ارتفاع سعر صرف الليرة أمام الدولار.
وتشير مرسل إلى أن ما وصلنا إليه هو نتاج تراكمات على مدى سنوات اوصلتنا إلى عجز غير مسبوق في ميزان المدفوعات والميزان التجاري، وتصفير للنمو وتنام للمديونية العامة، لتزيد تصنيفات الوكالات الدولية السلبية الطين بلّة، حيث ابعدت المستثمرين وزادت من حركة خروج أموال المودعين واللائحة تطول.. ما استنزف المالية العامة والهندسات التي قام بها مصرف لبنان من أجل تثبيت سعر صرف الليرة.
وتضيف مرسل أنه وعلى الرغم من الإجراءات التي اتخذتها لجنة المصارف والنيابة العامة المتمثلة بتوقيف المتلاعبين بسعر الدولار وإجبارهم على إمضاء تعهدات بعدم تكرار ما أقدموا عليه فإن الأزمة لم تحل، لأن المطلوب هو أن لا يختبئ المعنيون وراء إصبعهم لأنهم يفسحون بذلك المجال أمام الشائعات والمغالطات التي تتحكم بحياة الناس اليوم، الحل الوحيد أمام الدولة هو الإعتراف بالأزمة والتعامل معها على هذا الأساس، واتخاذ سلسلة من الإجراءات تبدأ بتنفيذ صدمات إيجابيّة في السوق وتستقطب بعدها الإستثمارات والودائع وتأمين أموال مؤتمر "سيدر" وخفض فعلي للعجز في الموازنة العامة وتوقيف التهرب الجمركي وحل أزمة الكهرباء بشكل سريع، كل ذلك باستطاعته إعادة الدولار إلى السوق.
ما يحصل اليوم هو إدارة للأزمة، تؤكد مرسل، وتشير إلى أنه في حال عدم اتخاذ تلك الإجراءات واذا استمرينا بهذا السيناريو فإن الأزمة ستكبر أكثر، وستستمر المؤسسات والشركات والمصارف بإخفاء الدولار تحسباً للأعظم، لكن المشكلة الأكبر هي في القدرة الشرائية التي ستتراجع بشكل ملحوظ، وفي التضخم الذي سيرتفع أكثر، مع انخفاض قيمة الليرة وبالتالي ارتفاع أسعار المواد الغذائية وغيرها من الحاجيات اليومية.
وحذّرت مرسل من أن الأزمة ستضرب لاحقاً الجميع، ومن اقترض بالدولار لن يتمكن من التسديد بالدولار ومن سيتأثر عندها هو المصارف أيضاً.