وأعلن أن "الدولة اللبنانية، ستسعى إلى إعادة هيكلة ديونها، بما يتناسب مع المصلحة الوطنية، عبر خوض مفاوضات منصفة، وحسنة النية، مع الدائنين كافة، تلتزم المعايير العالمية المثلى"، مشيرا أن ذلك يحتاج "حتما لتدابير صعبة".
وإذ شدد "على تطوير قطاعنا المصرفي"، رأى أن لبنان "لا يحتاج قطاعا مصرفيا يفوق بأربعة أضعاف حجم اقتصادنا"، جازما "سنعمل على حماية الودائع في القطاع المصرفي، خاصة ودائع صغار المودعين، الذين يشكلون أكثر من 90% من إجمالي الحسابات المصرفية".
نص الكلمة
جاء ذلك في كلمة وجهها دياب إلى اللبنانيين، في ما يأتي نصها:
"أيها اللبنانيات واللبنانيون،
يمر الوطن بمرحلة دقيقة جدا من تاريخه، تتجاذبه الأعاصير من كل حدب وصوب، تتقاذفه أمواج عاتية، يصارع البلد بقوة الإرادة التي يملكها كي لا يبتلعه الدوار.
اللبنانيون معروفون بحبهم للحياة، ولذلك نجحوا مرارا وتكرارا في مواجهة التحديات والانتصار على الأزمات، مهما بلغ حجمها وعمقها. والرهان اليوم على قدرة اللبنانيين في خوض معركة استقلال جديدة، ولكن بمفهوم مختلف، للتحرر من عدو يمارس السطو على حاضر اللبنانيين ومستقبلهم.
إن اللبنانيين دفعوا، عبر التاريخ، أثمانا باهظة في ثورتهم على الظلم والقهر والاستبداد، لكنهم مع ذلك لم يستسلموا، ولم يسلموا الوطن، فقاوموا الإرتهان، وانتصروا.
أيها اللبنانيات واللبنانيون،
إن الظروف الإستثنائية التي نعيشها هي انعكاس لأزمة غير مسبوقة تضع لبنان على مفترق طرق. لقد انصرفت هذه الحكومة، منذ لحظة تأليفها، إلى دراسة الأوضاع المالية للدولة، والخيارات المتاحة لمعالجة الأزمة العميقة التي يمثلها الدين العام، ووصلت الليل بالنهار لتحديد مكامن الخلل وأسس المعالجة.
كانت صرخة 17 تشرين الأول مدوية في مواجهة الفساد، والهدر، وسوء الإدارة، وسياسات مالية واقتصادية خانقة. هتف اللبنانيون بمطالبهم المحقة، فكانت الشرارة التي أنارت الطريق لوضع حد لمسار الفساد، وتلك السياسات التي أورثتنا بلدا مثقلا بالأعباء الكثيرة، ومن بين أهمها تراكم الديون وفوائدها.
هل يمكن لبلد أن يقوم اقتصاده على الاستدانة؟ هل يمكن لوطن أن يكون حرا إذا كان غارقا بالديون؟ نحن اليوم ندفع ثمن أخطاء السنوات الماضية، فهل علينا أن نورثها لأولادنا وأجيالنا المقبلة؟ لقد أصبح الدين أكبر من قدرة لبنان على تحمله، وأكبر من قدرة اللبنانيين على تسديد فوائده. كل الإقتصاد اللبناني بات أسير تلك السياسات، وأصبح قائما على فلسفة الاستدانة التي تراكمت مع الفوائد، من دون أي أفق لكيفية الخروج من هذا النفق الذي قضى على القطاعات الانتاجية في الاقتصاد الوطني.
في يوميات اللبنانيين معاناة مريرة مع البطالة، وغلاء المعيشة، وتدني مستوى البنى التحتية. كل ذلك كان يضيف الى معاناة اللبنانيين مآس وعذابات، تزيد من نقمتهم على الدولة.
على مدى السنوات الماضية، كانت موارد الدولة تستنزف في ظل عجز عن اتخاذ اجراءات جذرية توقف هذا الانحدار الحاد في مالية الدولة.
عاش اللبنانيون أملا كان وهما، وكأن الأمور على خير ما يرام، بينما كان لبنان يغرق بمزيد من الديون وفوائدها، بما في ذلك بالعملة الصعبة، حتى تخطى مجموع الدين العام 90 مليار دولار، بما يشكل نحو 170% من الناتج المحلي.
لقد أدى تدني مستوى الاحتياطي بالعملة الصعبة، إلى مزيد من الضغوط على العملة الوطنية مما حد من إمكانية حصول اللبنانيين خلال هذه الفترة على ودائعهم بالعملة الأجنبية لدى المصارف، بينما تنامى سوق مواز لسعر صرف الدولار الأميركي بالعملة الوطنية.
وبحسب تقديرات البنك الدولي، فإن أكثر من 40% من السكان قد يجدون أنفسهم قريبا تحت خط الفقر.
لماذا وصلنا الى هذه الحالة؟:
السبب الأول، أن النموذج الاقتصادي الذي أرسته السياسات السابقة، أثبت عجزا، خصوصا لجهة عدم قدرته على تحفيز الاستثمار، وخلق فرص عمل، فآثر قسم من اللبنانيين الريع على الإنتاج، بينما كانت الدولة عالقة في دوامة العجز فالاستدانة اللامتناهية. واقع اليوم أن كل ألف ليرة من إيرادات الدولة، يذهب أكثر من 500 ليرة منها لخدمة الدين، بدل صرفها على الصحة، والتعليم، والبنية التحتية. هذا النهج غير مستدام، ولا يمكن أن يستمر، خصوصا أن لبنان بات اليوم على مشارف أن يصبح البلد الأكثر مديونية في العالم نسبة إلى حجم الاقتصاد. أدى ذلك إلى تحول القطاع المصرفي عن دوره الأساسي كمؤثر وممول في الدورة الاقتصادية أساسا، إلى وسيط، يعمل من جهة على استقطاب الودائع بفائدة مرتفعة تجاوزت على الدولار 5 إلى 10 أضعاف ما تقدمه المصارف الأخرى في العالم، ومن جهة أخرى يقرض الدولة بسعر فائدة أعلى.
أدى ذلك الى تضخم ميزانيات المصارف والمصرف المركزي، بشكل أكبر بكثير من حاجتنا الى توفير تمويل للإقتصاد، وكبده أكلافا باهظة. هذا النموذج غير منصف إطلاقا، إذ تستفيد منه أقلية وتتضرر الأكثرية. من كل ألف ليرة مودعة في المصارف، يتم استثمار حوالي 300 ليرة على الاقتصاد الحقيقي.
الاقتصاد اللبناني غير منتج بشكل كاف، ما يدفعه لاستيراد 80% من السلع والخدمات التي يستهلكها، وبالتالي نحن نواصل إنفاق الدولارات أكثر من جذبها.
السبب الثاني: أنهك الفساد والهدر كاهل الدولة، ففرض نفسه في السياسة، والاقتصاد، والادارة العامة، وشتى مجالات الحياة اليومية.
كان الفساد في البداية خجولا، ثم أصبح جريئا، وبعد ذلك صار وقحا، إلى أن أصبح فاجرا، وجزءا رئيسا من مكونات الدولة والسلطة والمجتمع. لم يعد ممكنا بعد اليوم الاستمرار بالاستدانة لتمويل واقع الفساد. حان الوقت لنستعيد السلوك الأخلاقي في حوكمتنا، واسترجاع الثقة بدولتنا.
أما العامل الثالث فيتمثل بتداعيات الحروب والنزاعات، خصوصا ما تسببت به لجهة خنق الرئة الاقتصادية للبنان، وأضيف إليها تحمله أعباء النزوح الكبير.
أيها اللبنانيات واللبنانيون،
نواجه اليوم استحقاقا كبيرا، تبلغ قيمته نحو 4.6 مليار دولار من سندات اليوروبوند وفوائدها في العام 2020، وتستحق الدفعة الأولى منها في 9 آذار (أي بعد يومين).
أمام هذا الاستحقاق، لا يسعنا إلا أن نقف وقفة حق وضمير لنحمي مصلحة الوطن والشعب.
إن احتياطياتنا من العملات الصعبة قد بلغ مستوى حرجا وخطيرا، مما يدفع الجمهورية اللبنانية لتعليق سداد استحقاق 9 آذار من اليوروبوند، لضرورة استخدام هذه المبالغ في تأمين الحاجات الأساسية للشعب اللبناني.
إن التوصل إلى هذا القرار لم يكن سهلا، فهو جاء بعد دراسات معمقة ومتأنية، لعدد من الخيارات المتاحة، من جميع الجوانب، بما فيها المالية والقانونية.
إن قرار تعليق الدفع، هو اليوم، السبيل الوحيد، لوقف الاستنزاف وحماية المصلحة العامة، بالتزامن مع اطلاق برنامج شامل للاصلاحات اللازمة، من أجل بناء اقتصاد متين ومستدام، على أسس صلبة ومحدثة.
قرارنا هذا، نابع من حرصنا على مصلحة كل المواطنين.
قرارنا هذا، نابع من تصميمنا على استعادة قدرة الدولة على حماية اللبنانيين، وتأمين الحياة الكريمة لهم.
كيف يمكننا أن ندفع للدائنين في الخارج واللبنانيون لا يمكنهم الحصول على أموالهم من حساباتهم المصرفية؟ كيف يمكننا أن ندفع للدائنين ونترك المستشفيات تعاني من نقص في المستلزمات الطبية؟ أو لا نستطيع تأمين الرعاية الصحية للناس؟ كيف يمكننا أن ندفع للدائنين وهناك أناس على الطرقات ليس لديهم المال لشراء رغيف خبز؟ لبنان، بلد يحترم التزاماته. لكن في ظل الوضع الراهن، الدولة غير قادرة على تسديد الاستحقاقات المقبلة.
في ضوء ما تقدم، ستسعى الدولة اللبنانية، إلى إعادة هيكلة ديونها، بما يتناسب مع المصلحة الوطنية، عبر خوض مفاوضات منصفة، وحسنة النية، مع الدائنين كافة، تلتزم المعايير العالمية المثلى.
أكثر من 50 دولة تخلفت قبلنا عن سداد ديونها، والدول التي طبقت الاصلاحات اللازمة، تعافت، وهو ما نحن مصممون على فعله، على الرغم من أن لبنان يعاني ثلاث أزمات متلازمة هي: أزمة العملة، وأزمة المصارف، وأزمة الديون السيادية.
هذه الحكومة، انصرفت منذ ولادتها قبل أقل من شهر، على صياغة برنامج إصلاحي يرتكز على:
معالجة الدين، من ضمن برنامج الحكومة الاصلاحي الذي يهدف إلى إعادة الثقة ببلدنا، وتنفيذا لبياننا الوزاري، لا سيما الإجراءات التي وعدنا بها خلال فترة المئة يوم الأولى.
تتصدر إعادة التوازن الى المالية العامة، سلم أولوياتنا. فإذا أردنا تحرير أنفسنا من عبء الدين، لا يجوز أن ننفق أكثر مما نجني. سينجح لبنان في تأمين خفض الانفاق عبر إجراءات طال انتظارها، منها الإصلاح في قطاع الكهرباء. وستحقق خطة التغويز التي اعتمدتها حكومتنا وفرا يصل إلى أكثر من 350 مليون دولار في العام.
هذه ليست إلا البداية.
كذلك فإن هذا البرنامج الاصلاحي سيؤمن موارد إضافية، تستفيد منها قطاعات الصحة، والتعليم، والبنية التحتية، وتهدف إلى خفض النفقات.
طلبت من السادة الوزراء، اقتراح إصلاحات ليصبح نظامنا الضريبي أكثر إنصافا. ونتعهد بالوقوف سدا منيعا في وجه التهرب الضريبي، مع زيادة مستوى الجباية وفعاليتها.
كذلك، سنطلق شبكة أمان اجتماعي لحماية الطبقات الأكثر فقرا.
لقد باشرنا بإعداد استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد. وقريبا، ستبصر اللجنة المختصة النور، وستكون مزودة بالصلاحيات والإستقلالية اللازمة للقيام بمهامها. وبما أن الشفافية هي الطريقة الفضلى لمكافحة الفساد، فقد تقدمت هذه الحكومة، بعد ثلاثة أسابيع فقط من نيلها الثقة، بمشروع قانون يرمي إلى رفع السرية المصرفية عن كل من تولى ويتولى الشأن العام.
كذلك، بدأ إصلاح النظام القضائي من خلال التشكيلات القضائية التي أعدها مجلس القضاء الأعلى، ويجري العمل على مشاريع قوانين لتحسين ظروف التجارة والأعمال، وإيجاد مناخ يشجع على الإستثمار والنمو.
ستساعدنا هذه الإجراءات، على الإنتقال من الإقتصاد الريعي إلى الإقتصاد المنتج. لبنان الغد سيرتكز أكثر وأكثر على الزراعة والصناعة والمعرفة والتكنولوجيا، إضافة الى قطاعاته التقليدية في التجارة والسياحة والخدمات.
سنعمل كذلك، على تطوير قطاعنا المصرفي. فنمو اقتصادنا وريادة الأعمال لا يمكن أن يتحقق من دون دعم المصارف. لكننا، في الوقت عينه، لا نحتاج قطاعا مصرفيا يفوق بأربعة أضعاف حجم اقتصادنا.
لذا، يجب إعداد خطة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي.
سمعت الكثير من الهواجس المتعلقة بالمودعين. لا نزال نقيم الخيارات المطروحة أمامنا وهي عديدة. لكن دعوني أكون واضحا: سنعمل على حماية الودائع في القطاع المصرفي، خاصة ودائع صغار المودعين، الذين يشكلون أكثر من 90% من إجمالي الحسابات المصرفية.
في الوقت الراهن، علينا وقف النزيف المالي. سوف نقدم قريبا مشروع قانون خاص بتنظيم العلاقات بين المصارف وعملائها، لتصبح أكثر عدلا وإنصافا.
إن خطة العمل ستغير شكل مستقبلنا الإقتصادي والمالي. والحكومة ملتزمة بذلك. وأنتهز هذه الفرصة، كي أؤكد من جديد لشركائنا الدوليين التزام الحكومة اللبنانية، برؤية الإستقرار والنمو المقترحة في مؤتمر سيدر. الإصلاحات التي تم التوافق عليها في المؤتمر، ستطبق لأنها ضرورية لإعادة إطلاق عجلة الإقتصاد، وتحقيق الإزدهار للشعب اللبناني. هذه الإصلاحات، هي أيضا مهمة لإعادة الثقة، والدعم، من أشقائنا العرب، ومن المجتمع الدولي .
إن إعادة هيكلة الدين والإصلاحات الجريئة في صلب هذه الخطة، تستغرق وقتا وجهدا، وتحتاج حتما لتدابير صعبة.
يحتاج ذلك، إلى تكاتف وصبر وتصميم على تنفيذ الإصلاحات، لأنها الطريق الوحيد للوصول إلى بر الأمان من أجل صون لبنان ومستقبل اللبنانيين.
أيها اللبنانيات واللبنانيون
بلدنا رائع واستثنائي. شعبنا فريد من نوعه. وأنا مؤمن حقا بمواهبنا الجماعية وغير العادية.
وإذا أردنا أن نستخلص من تاريخنا عبرة، فهي حتما أن عدونا الأول كان دائما هو نفسه: الانقسام. بالانقسام نفشل، أما بالوحدة فنتغلب على جميع الصعوبات. بالانقسام الفشل وبالوحدة النجاح.
إذا تسلحنا بوحدتنا خلال هذه الأزمة، وإذا ركزنا، ليس على أنفسنا بل على وطننا، فأنا واثق كل الثقة أننا سننتصرحتما، لنبني معا لبنان أقوى وأكثر نجاحا.
عشتم وعاش لبنان".