ليس من الضروري متابعة مجريات المحكمة الخاصة بلبنان في لاهاي والاستماع إلى مداخلتَي الادعاء والدفاع الختاميتين لمعرفة من قتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
الثلاثة آلاف ونيّف من الأدلة القاطعة، ليست بحجم الدليل الذي بحوذة العديد من اللبنانيين الذين يطالبون بالعدالة، ليس فقط لدماء الشهيد الحريري بل أيضا لحماية أنفسهم وأولادهم من بطش أصحاب القلوب السوداء وثلة المنافقين.
في حين أن نظام المحكمة – عن سبق تصور وتصميم – يحصر اختصاصها في محاكمة الأشخاص مستثنياً الكيانات والجماعات، إن قتل الحريري المعنوي هو جريمة مستمرة، بدأت ما قبل تفجير موكب الحريري وتستمر إلى يومنا هذا عبر محاولة تدمير ومحو الإرث السياسي لرفيق الحريري واستهداف أسس دولة الطائف التي بناها هذا الرجل ولربما مات في سبيلها.
يكفي أن يمعن المرء بتصرفات المتهمين باغتيال الحريري وحلفائهم من المسيحيين للوصول إلى قناعة مطلقة بأن قتلة الحريري الحقيقيين يتجاوز عددهم خلية الموت التي قادها مصطفى بدر الدين. جريمة اغتيال الحريري شارك ويشارك فيها ثلاث مجموعات مختلفة، لكل منها أهداف وأولويات مختلفة، من بينها الأنانية الضيقة والأخرى التي ترتبط بمشاريع توسعية إقليمية.
الفريق الأول يشمل رئيس الجمهورية ميشال عون وحاشيته الذين لم يسامحوا أركان الطائف – الحريري وبري وجنبلاط – على طرده وبمساعدة من سورية من قصر بعبدا الذي احتله معلناً نفسه “المنقذ” قبل أن يمضي الى منفاه الباريسي.
غضب عون الحقيقي لم يكن يوماً من الصفقة التي أبرمت بين الحريري وحافظ الأسد، بل هو غاضب من عدم كونه الشخص الذي عقد هذه الصفقة مع سوريا، والأحداث التي تلت عودته إلى لبنان بعد اغتيال الحريري برهنت عن براغماتية وجنوح لا مثيل لهما. وتحت مقولة “العهد القوي” يقوم عون وصهره الطامح لخلافته على كرسي بعبدا بتقزيم دور رئيس الحكومة وتطبيق السلطة المطلقة لرئيس الجمهورية والتي تشكل خرقاً واضحاً للدستور ودفناً لاتفاق الطائف.
الفريق الثاني – المتهم الأول بعملية الاغتيال الجسدية – أي “حزب الله” وبتوجيهات إيرانية دائب في تفكيك فكرة لبنان كما أرادها رفيق الحريري. لبنان الحيادي المنفتح على عروبته وعلى خصوصيته المذهبية والتعددية، بلد عصري مجهز بالبنية التحتية والقدرات البشرية والعلمية للخوض في نهضة اقتصادية شاملة. أما مع “حزب الله”، وبحسب انموذج دولته “المقاومة”، فقد تحول لبنان من بلد شقيق لكل العرب إلى بلد منبوذ يواجه عقوبات اقتصادية ستشل وتدمر قطاعه المصرفي، بلد متروك ليدور في فلك دولة ولاية الفقيه، بلد مهترئ من الداخل يروج للموت والقتل على حساب شعوب المنطقة.
الفريق الثالث الإسخريوطي، هو مجموعة أناس انتموا نظريا لتيار الحريري وكسبوا منه مرتبات عالية وثروات باهظة. لكن، مع مرور الوقت برهنوا عن انتهازيتهم وجبنهم وسمحوا للفريقين المذكورين أعلاه باحتلال وتقويض الدولة ومؤسساتها كافة. ومن سخرية القدر أن تلك الطبقة باستثناء بعض الشجعان منهم رفضوا الظهور في وسائل الإعلام العربية والمحلية للتعليق على مجريات المحكمة، ليس خوفاً على العدالة بل خوفاً من تفويت فرصة توزيرهم في الحكومة المزمعة.
وإلى هذه المجموعات الثلاث، تضاف المجموعة الأكبر وهي الشعب اللبناني بأسره الذي سمح بأن يُختطف البلد في وضح النهار ويُحول من مشروع عصري اقتصادي بقيادة رفيق الحريري إلى حانوت تديره قوى “الممايعة” والانتهازيين الطامحين إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
بناء على كل ما تقدم، على المحكمة الدولية، إن أرادت فعلا إحقاق العدالة، أن تُدخل وتستدعي هؤلاء الأشخاص، وفي حال رفضهم الامتثال كما هو متوقع يكفي أن تراجع العدالة الدولية تصريحاتهم ومواقفهم لإصدار حكمها النهائي: “الاشغال الشاقة المؤبدة” أو حتى أكثر.