بالفم الملآن أعلنها وزير الصحة العامة فراس الأبيض قبل أيّام، حليب الأطفال لم يعد "مدعوماً"؛ الغذاء الأساسي الوحيد للرضع تخطّى سعره الـ330 ألف ليرة لبنانية للعبوة الواحدة، من دون أي إنذار مسبق، في وطن لا تتجاوز فيه معظم الرواتب والأجور الإثني عشر مليون ليرة لبنانية!
"القاعدة" خُرقت!
الخطوة بحدّ ذاتها غير مفاجئة لمعظم اللبنانيين، فرفع الدعم عن السلع والمواد يستكمل تباعاً في محاولة لضبط التهريب؛ وعلى قاعدة "كل مدعوم مفقود" استبشر الأهالي بإيجاد حليب لصغارهم، بعد تحرير الأسعار، وإيقاف رحلة البحث الشاق والدائم في الصيدليات.. فكانت الصدمة، حليب الأطفال الرضع لا يزال غير متوفّر في السوق!
معظم الصيدليّات في مختلف المناطق لم تتسلم بعد أي دفعة جديدة من حليب الأطفال؛ فالشركات المستوردة في لبنان وتزامناً مع الارتفاع الجنونيّ لسعر صرف الدولار في السوق الموازية، توفقت قبل أسابيع عن التّسليم.
ويروي أحد الصيادلة لـ"لبنان 24" أنه يستلم نحو 5 عبوات من حليب الأطفال، غالباً ما تكون وفق ما توفّر. ويقول: "نحن نطلب من الشركات المستوردة ما نحتاج له من أدوية وحليب أطفال، لكننا لا نحصل بالضرورة على الكمية المطلوبة وعندما تصل "الطلبيّة" نكتشف ما تأمّن".
وعن فقدان الحليب بالرغم من رفع الدعم، يشير الصيدلي إلى أنّه لم يتلق حتّى اللحظة "طلبيّته" وبالتالي لا يدرك إن كانت ستتوفّر كل الأصناف لمختلف الأعمار، لافتاً الى ان تأمين كميات الحليب المطلوبة في السوق يحتاج الى الوقت، فقرار رفع الدعم ليس بـ"الكبسة السحريّة" لتعويم الصيدليّات بالمادة المفقودة.
الحليب متوفّر في المستودعات أم مفقود؟
مشهد تلف كمية كبيرة من حليب الأطفال لعمر ما بين سنة وثلاث سنوات، لم يغب بعد عن أذهان اللبنانيين، من عانوا بحرقة من أزمة شحّ مفتعلة هدفها الأوّل والأخير الربح الزائد!
تكديس العبوات والاحتكار فُضح حينها، وبات الأهل مدركين أنهم بقبضة تجّار "لا دين لهم"! واليوم، مع استمرار أزمة الحليب، تلفت مصادر مراقبة للملفّ الصحي إلى أن "رفع الدعم هو ما كان التجار بانتظاره منذ البدء، فهم على علم بأن وقف التهريب في بلدنا غير قابل للتنفيذ، وجلّ ما كانوا يقومون به في فترات ما قبل رفع الدعم هو الضغط عبر افتعال أزمة ومنع الحليب عن الرّضع بتخزينه في المستودعات".
إلّا أن المصادر تعيد سبب انقطاع هذا المنتج الغذائي من الصيدليات الى تلكؤ وامتناع "المركزي" عن فتح الاعتمادات في الفترة السابقة، معتبرة أنه مع تحرير الأسعار، لن يكون المستورد مضطراً للحصول على إذن مسبق من مصرف لبنان، وبالتالي لن يعيق عملية الاستيراد أي إجراء.
غير أن الأسعار لن تكون "حرّة" وخاضعة للطلب، بحسب المصادر التي تؤكّد أن وزارة الصحة ستحدّد التسعيرة أسبوعياً، فالحليب في الفئتين الأولى والثانية يعتبر كالدواء.
عبء إضافي: الأسعار "نار"!
حتّى وإن توفرّ حليب الأطفال الرضع في الصيدليات، لن يتمكّن الأهالي من تحمّل عبء السعر الجديد. فبعملية حسابيّة بسيطة، نجد أن تكلفة الحليب للرضع شهريّاً قد تصل الى 3300000 ليرة لبنانية بعد أن كانت تبلغ حولى 1600000 ليرة لبنانية، فيما الحدّ الأدنى لرواتب القطاع العام مثلاً، وبعد تطبيق قانون الموازنة العامة للعام 2022 والتي نصت على إعطاء زيادة للعاملين في القطاع العام وللمتقاعدين تبلغ ضعفي أساس الراتب الشهري، يصل إلى 5 مليون ليرة لبنانية.
إذاً، وبالرغم من مضاعفة الأجور، تشكّل كلفة حليب الأطفال، بعد رفع الدعم، 66% من أصل راتب ربّ أسرة من الفئات الخامسة والرابعة (من يتقاضون 5 مليون ليرة لبنانية)؛ وعلى الأخير أن "يتسيسر" بالـ34% المتبقّة لتغطية كلفة الكهرباء، مولّد الطاقة، المأكل، المشرب.. حال لا يحسد امرء عليها!
إضافة الى الثقل المادي، البحث الدائم عن حليب الأطفال الرضع يُنهك كمال، 38 عاماً، فمنذ حوالى الستة أشهر وكابوس"الحليب" يرافقه! ويسرد الأب لـ"لبنان 24" مشقّة إيجاد حليب لصغيره، ويقول: "في البدء كنت أحضر لطفلي حليب "nursie confort 1" أو "nursie ar" الى أن رفع الدعم عن هذه الأصناف في وقت سابق، فاستبدلناها بـ"nursie 1" والبالغ سعره قبل رفع الدعم حوالى 160000 ألف ليرة لبنانية، إذ أننا نحتاج كلّ ثلاثة أيّام عبوة وزنها 400 غراماً"؛ غير أن ما "يزعجه" هو عدم توفّر الحليب في الصيدليات واضطراره للبحث في المناطق المجاورة لسكنه.
أمّا ساندرا، 30 عاماً، أمّ حديثة الولادة لرضيع انتظرت أشهراً لتحتضنه وتضمّه بذراعيها، ففرحتها بمولودها الجديد تتصاحب مع غصّة وقلق يلازمانها بشأن كيفيّة تأمين الحليب له في ظلّ فقدان المادّة المستمرّ. ساندرا توضح لـ"لبنان 24" أن "أكثر ما يرعبها هو عدم القدرة على إيجاد حليب لصغيرها، فهي تمّر بصيدلية تلو الأخرى وتوصي المقرّبين منها بإحضار حليب لرضيعها إن وجدوا في الصيدليات المجاورة لهم".
وعن الكلفة الماديّة، تؤكّد أنّها "مهما بلغت أسعار عبوات الحليب ستحضرها، وإن فاق الأمر قدرة الأسرة الاستهلاكيّة فقد تضطرّ مرغمة الى تقليل كميّة الحليب المجفف من الحصص اليوميّة أو قد تلجأ الى الحليب الحيواني الطبيعي كبديل أو الحليب المجفّف المدعّم للصغار المتواجد في السوبرماركت، كما قد تلجأ إلى "علّومة قديمة" تقضي بخلط الحليب بماء الأرز، ما يجعل المشروب دسماً وبالتالي توفّر بعضاً من "الحليب البودرة".
هل من بديل لحليب الرّضع؟
لا بديل لحليب الرضع قبل بلوغ السنة الأولى، هذا ما يوكّده ويشدّد عليه مصدر طبيّ لـ"لبنان 24". ويفسّر أن حليب الأطفال المتواجد في الصيدليات والمخصص للرضع يوفّر لهؤلاء كل العناصر الغذائية اللازمة لنمو سليم، في تركيبة مشابهة لحليب الأمّ.
كما يشير إلى أن لجوء الأهل الى الحليب المدعّم المتواجد في السوبرماركت لا يحبّذ قبل بلوغ السنة الثانية، محذّراً من العودة الى "الخلطات مع الأرز أو مسحوق النشا" وموضحاً أن هذه الإضافات تحرم الرضيع من كميّة الحليب المتوجب عليه تناولها في الحصّة الواحدة، فيحرم بذلك من الفيتامينات والبروتينات والمعادن اللازمة لتطوير خلايا جسمه.
الحلّ في بطاقة الأسرة!
قد يكون وزير الصحة أوجد الحلّ الأسرع لأزمة شحّ الدواء والحدّ من التهريب، لكنّها الأكثر كلفة وثقلاً على المواطن؛ ويرى نقيب صيادلة لبنان الدكتور جو سلوم في حديث لـ"لبنان 24" أن خطوة الأبيض كان لابدّ منها للحد من التهريب، فالكميات المدعومة تكفي بلدين؛ كما لا بدّ من رفع الدعم عن الأدوية كافّة ما عدا السرطانيّة".
تزامناً مع تحرير أسعار الحليب وعلى غرار البطاقة الدوائية، يلفت سلّوم إلى ضرورة اللجوء لبطاقة أسرة للحدّ من الأعباء الملقاة على الأهل، فأسعار حليب الرضع ستفوق القدرة الشرائية للعديد من الأسر.
وفي ما يخصّ فقدان الحليب من الصيدليات، يعيد سلوم السبب الى عدم قدرة الشركات المستوردة على فتح اعتمادات في ما مضى وتأمين الكميات المطلوبة، لكنها الآن باتت قادرة على تغطية الحاجة المحلية إنما الأمر قد يستلزم المزيد من الوقت، فلا يمكن أن تؤمن الكميات اللازمة من الحليب فور رفع الدعم إن كانت الأصناف مفقودة.
رفع الدعم ما لم يترافق مع استرتيجيّة متكاملة تحمي المواطن من الأثمان الباهظة المترتبة عليه لقاء تأمين أساسيات العيش الكريم، لن ينهي الأزمات بل على العكس ستتفاقم وتؤدي الى مزيد من النتائج الكارثيّة.. إلى متى يحتمل اللبناني مشقّة وذلّ واقعه؟ والى متى يستمرّ الرهان على قدرة هذا الشعب على التأقلم، فالخناق يشتدّ و"العائلة" أمست مستهدفة.
أخبار متعلقة :