كتب محمد موسى في “اللواء”:
يشكّل توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص محطة مفصلية في مسار العلاقات بين البلدين، إذ لا يقتصر أثرها على تحديد الخطوط البحرية فحسب، بل يتعدّاه إلى بناء علاقة شراكة تستند إلى القانون الدولي ومصالح الطاقة في شرق المتوسط بالرغم من التحفظات التي تأتي من هنا وهناك والتي قد يكون لها مع جملة معالجات في قادم الايام. فالترسيم يضع العلاقة الثنائية على مسار أكثر استقراراً، لأنه يؤمّن إطاراً قانونياً واضحاً يمكن الاعتماد عليه عند الاستثمار في المناطق الاقتصادية الخالصة، ما يفتح الباب أمام تعاون موسّع يتجاوز البعد التقني إلى التعاون الأمني وحماية الملاحة وتطوير مشاريع البنى التحتية للطاقة. كما يمنح لبنان فرصة حقيقية للتقارب مع الاتحاد الأوروبي عبر البوابة القبرصية التي لطالما شكّلت نقطة تواصل أساسية بين الشاطئين الشرقي والغربي للمتوسط.
وعلى المستوى الجيوسياسي، يحمل الاتفاق دلالات إضافية في منطقة تشهد تعقيدات حادة بسبب النزاعات البحرية بين عدة أطراف، خصوصاً بين تركيا واليونان وبين تركيا وقبرص. فإقرار تفاهم لبناني – قبرصي بعيد عن أي توتر يرسل إشارة إلى أن دول الشرق قادرة على حل نزاعاتها البحرية بالاستناد إلى قواعد القانون الدولي واتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وهو ما يقدّم نموذجاً عملياً لتخفيض منسوب الاحتقان في الحوض الشرقي للمتوسط. كما أن الاتفاق يعزّز ثقة شركات الطاقة العالمية بأن المنطقة تتجه تدريجياً نحو بيئة أكثر قابلية للاستثمار، خصوصاً أن نجاح لبنان سابقاً في تفاهم الترسيم الجنوبي ثم هذا الاتفاق يعكس مساراً دبلوماسياً هادئاً يضع الحقوق القانونية فوق حسابات التصعيد والذي يخشاه لبنان بفعل العدوانية الإسرائيلية والتهديدات المتلاحقة والتي لا تبشر بالخير.
اقتصادياً، ينظر لبنان إلى الاتفاق بوصفه نافذة أمل جدّية في وقت يمر فيه باختناق مالي واقتصادي غير مسبوق.
فترسيم الحدود البحرية بآليات واضحة يقلّل من المخاطر القانونية التي تخشاها الشركات الدولية، ويعطي لبنان فرصة للدخول مجدداً إلى خارطة الاستثمار في الطاقة، بما قد يساهم مستقبلاً في تخفيف الضغط على المالية العامة وتعزيز الثقة بقدرة الدولة على إدارة ملفات استراتيجية. وفي المقابل ترى قبرص أن الاتفاق يعزّز موقعها في شبكة الحدود البحرية لشرق المتوسط، ويمنحها أساساً قانونياً متيناً لتطوير مشاريعها في الغاز وتسهيل الربط مع أوروبا، في وقت تصاعدت فيه أهمية المنطقة في الحسابات الطاقوية الأوروبية منذ أزمة إمدادات الغاز العالمية، أما في ما يتعلق بموقف لبنان من النزاعات البحرية الأخرى في المتوسط، فإن الاتفاق يظهر مقاربته الثابتة القائمة على اعتماد المسار القانوني والابتعاد عن منطق الاصطفافات. فلبنان، رغم مراقبته الدقيقة للتوترات بين تركيا واليونان وبين أنقرة ونيقوسيا، تجنّب الانحياز لأي طرف، مفضّلاً التزام قواعد القانون الدولي وحماية مصالحه من دون الدخول في المحاور الإقليمية. وهذا المسار المتدرّج، الذي بدأ بترسيم حدوده الجنوبية ثم انسحب اليوم على حدوده الغربية، يعطي صورة دولة تسعى لتثبيت حقوقها بوسائل دبلوماسية رصينة عنوانها الالتزام بالقانون الدولي. وتبرز أهمية الاتفاق أيضاً في تعزيز موقع لبنان أمام مؤسسات الاتحاد الأوروبي، إذ يعكس قدرة الدولة اللبنانية على إنجاز تفاهمات حساسة بطريقة شفافة ومسؤولة، ما قد يدعم مساعيها للحصول على مساعدات في قطاع الطاقة والبنى التحتية، ويمنحها نقاطاً إضافية في ملفات الشراكة الأوروبية – المتوسطية، خصوصاً أن قبرص نفسها تشكل جسراً مؤثراً داخل المنظومة الأوروبية.
إن الترسيم اليوم قد يشكل إنجازا» للمسار الدبلوماسي الذي يتقاطع مع النهج الذي يعتمده الرئيس جوزف عون في مقاربة الملفات الوطنية، حيث يسعى إلى ترسيخ التوازن والموازنة في الخيارات الكبرى، وإلى تثبيت موقع لبنان كدولة قادرة على حماية مصالحها بعيداً عن التشنج وبلا تفريط بالسيادة. فسياسة الرئيس عون، القائمة على التهدئة والحوار واحترام المؤسسات، توفّر الإطار الضروري لأي اتفاق يحفظ حقوق لبنان ويعزّز حضوره في المنطقة، وتجعل من هذا الترسيم خطوة إضافية في اتجاه ترسيخ الاستقرار وحماية المصلحة الوطنية العليا.
أخبار متعلقة :