وصف رئيس الحكومة سعد الحريري العام 2019 بأنه “سنة العدالة” المنتظرة لمعرفة الحقيقة بشأن اغتيال والده، رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، مؤكدا في مهرجان جماهيري لأنصاره في بيروت، لإحياء ذكرى اغتيال الحريري الأب قبل 14 عاما، أن المطالبة بإصدار حكم في القضية ليست “طريقًا للانتقام” أو ردة فعل، بل استدعاء للعدالة ورفض للتغطية على الحقيقة “مهما كانت قاسية”.
وأوضح الحريري أنه “بعد أشهر ستعقد جلسة للحكم في قضية الرئيس الشهيد ورفاقه” من قبل المحكمة الدولية وأن “استشهاد رفيق الحريري وحّد اللبنانيين، ولن نسمح لأحد بإعادة تخريب البلاد بسبب قرار المحكمة”، في خطوة ينتظرها اللبنانيون لاستعادة بلدهم الذي غرق في فوضى على كل المستويات.
سقوط لبنان
عشية ذكرى اغتيال الحريري، رجل الدولة الذي ترك بصماته في لبنان، أعلن في بيروت عن إغلاق جريدة “المستقبل”، ضمن خطوة يقول الكاتب اللبناني خيرالله خيرالله إنها “تعطي فكرة عمّا آلت إليه الأوضاع في لبنان. فإغلاق المستقبل جزء لا يتجزّأ من سقوط لبنان الذي عبّرت عنه القمة الاقتصادية العربية التي استضافتها بيروت قبل نحو أسبوعين، والتي قاطعها الزعماء العرب، خصوصا قادة دول الخليج العربي”.
وكان الحريري أسس في العام 1993 محطة تلفزيونية (المستقبل)، ثم جريدة المستقبل، كما كانت له أسهم في صحف لبنانية عدة. ويأتي ذلك، بعد أن خط لنفسه طريقا واضحا منذ سنة ظهوره السياسي على ساحة الأحداث عام 1982 من الباب الاقتصادي، حيث يتذكره اللبنانيون “كفاعل خير” وضع إمكاناته تحت تصرف الدولة، وساهم في إزالة الآثار الناجمة عن الاجتياح الإسرائيلي للبنان ووصوله إلى العاصمة بيروت سنة 1982.
وفي 1989 أسهم أيضا في عقد مؤتمر الطائف الذي وضع حدا للحرب الأهلية اللبنانية. وترأس رفيق الحريري حكومات لبنان لخمس دورات خلال فترتين، 1992-1998 ثم 2004-2000، مقدما استقالته بتاريخ 20 أكتوبر 2004. وأطلق خلال مشاركته على امتداد 6 سنوات (بين 1992 و1998) أضخم عملية إعمار وبناء في تاريخ البلاد.
وفي تشرين الثاني 1998، وسط تنافر واضح بين الحريري ورئيس الجمهورية الجديد إميل لحود حول صلاحيات الرئيسين، ومن منهما الرأس الفعلي للسلطة التنفيذية، أحجم الحريري عن ترؤس الحكومة، فكلف لحود سليمَ الحص،-المعروف بأنه من منتقدي الحريري وخصومه السياسيين، بتشكيلها. وأشرفت حكومة الحص على انتخابات نيابية عام 2000 شابتها حملات إعلامية حكومية منظمة ضد الحريري عبر عدد من السياسيين وأجهزة الإعلام الرسمية.
إلا أن هذا العداء والاستهداف المباشر للحريري أوجدا حالة تعاطف غير مسبوقة له في الشارع كانت نتيجتها، في أيلول 2000 اكتساح قوائم الحريري الثلاث العاصمة مجددا حاصدا المقاعد الـ18 المخصصة للمدينة، وسقوط الرئيس الحص نفسه في هذه الانتخابات.
وكانت تلك أول حالة سقوط لرئيس وزراء في السلطة. وإثر ذلك، ونتيجة المشاورات النيابية اضطر الرئيس لحود إلى تكليف الحريري مجددا بتشكيل حكومته الرابعة بعدما رشحه لرئاستها.
ثم عاد الحريري وشكل حكومته الخامسة في نيسان 2003 بعدما رشحه للمنصب 93 نائبا، إلا أن علاقاته برئيس الجمهورية ظلّت سلبية. وفي صيف 2004 اشتد التجاذب في الساحة السياسية، وازدادت الضغوط السورية لتعديل الدستور كي يتسنى تمديد فترة حكم الرئيس لحود، مقابل تردد الحريري ومعارضة حليفه القوي الزعيم الاشتراكي الدرزي وليد جنبلاط وكذلك رفض الولايات المتحدة وفرنسا للتعديل رفضا معلنا.
وفي نهاية المطاف، تجاوبت حكومة الحريري مع الضغوط السورية ووافقت على التمديد، فيما امتنع معظم أعضاء كتلته عن تأييد القرار لدى إحالته إلى مجلس النواب، حيث صوتت كتلة جنبلاط علنا ضد التمديد. وبعدها شعر الحريري بأنه لم يعد قادرا على البقاء في الحكم في وجه تأييد دمشق الواضح للرئيس لحود، فاستقال.
وقاطع نواب كتلته ونواب حليفه جنبلاط الحكومة البديلة التي كلف لحود رئيسَ الوزراء الأسبق عمر كرامي، أحد أشد خصوم الحريري، بتشكيلها.
وجاء تشكيل الحكومة بمثابة إعلان حرب على حلف الحريري – جنبلاط، إذ ضمت عددا من ألد خصومهما السياسيين إلى جانب حلفاء للحود وممثلين عن الأحزاب المؤيدة أو التابعة لدمشق.
غير أن هذا السيناريو ساهم في استحصال واشنطن وباريس على قرار من مجلس الأمن الدولي (رقم 1559) يطالب بانسحاب القوات السورية من لبنان وتجريد كل القوى غير الشرعية (بما فيها حزب الله) من أسلحتها وإرسال الجيش اللبناني إلى الجنوب.
كذلك ساعد على تنامي صفوف المعارضة، إذ طوى جنبلاط صفحة عداوته القديمة مع قوى اليمين المسيحي، بما في ذلك جماعة الرئيس الحالي ميشال عون، قائد الجيش السابق الذي كان في ذلك الوقت مقيما في فرنسا، وجماعة قائد حزب القوات اللبنانية سمير جعجع الذي كان سجينا في مقر وزارة الدفاع اللبنانية بضواحي بيروت.
وبالتدريج أخذ نواب كتلة الحريري يعمّقون تنسيقهم مع تحالف جنبلاط والمعارضة المسيحية في وجه الرئيس لحود وداعميه من القوى المؤيدة لدمشق وعلى رأسها القوتان الشيعيتان الرئيسيتان حزب الله وحركة أمل.
لكن، تم اغتيال رفيق الحريري عند الساعة 12:55 من ظهر الاثنين، 14 شباط 2005، في منطقة فندق السان جورج وسط بيروت. وذهب ضحية الانفجار الذي استهدفه (بقوة ألف وثماني مئة كلغ من مادة ت.ن.ت) 21 شخصا آخر، بينهم وزير الاقتصاد السابق باسل فليحان ومجموعة من مرافقي الرئيس. ليكون ذلك التاريخ نقطة مفصلية في حاضر لبنان الذي غرق في فوضى سياسية لم ينجح في الخروج منها.
واليوم، لئن جاءت ذكرى اغتيال الحريري وقد تجاوز لبنان عتبة أزمة الحكومة، بعد استعصاء دام حوالي تسعة أشهر من المشاحنات السياسية، فإن الأمر لا يبعث على الكثير من الأمل في إنقاذ رقبة البلد من سيف حزب الله وإيران التي ستعمل في ظل حالة التضييق التي تواجهها في سوريا وفي عموم المنطقة، على ترسيخ سيطرتها على لبنان، ومحاولة إبعاده عن محيطه العربي وخلق فجوة بينه وبين حلفائه وداعميه التقليديين، خاصة السعودية.
في المقابل، هناك مساع أميركية وسعودية لمنع حدوث ذلك، ترجمها إعلان واشنطن عن تقديم حزمة مساعدات جديدة للجيش اللبناني بما يقطع الطريق أمام أي اختراق لبناني.
وفي مؤشر على عودة الدفء إلى علاقة كانت وثيقة في وقت من الأوقات لكن شابها الفتور في السنوات القليلة الماضية، رفعت السعودية تحذيرا من السفر إلى لبنان وجهته منذ سنة 2011 لمواطنيها.
وكان الحضور السعودي واضحا في مراسم أقيمت مساء الأربعاء لإحياء ذكرى اغتيال رفيق الحريري. وكان العلم السعودي يرفرف في موقع انعقاد مراسم إحياء الذكرى، وسط حضور حاشد، يتطلع كل سنة إلى محاكمة الجناة، ويطالب سعد الحريري بالمضي قدما في القضية التي لن تأخذ فقط حق الحريري بل حق لبنان أيضا وستحرره من قيود كثيرة تكبله.
محاكمة الجناة
وأكد سعد الحريري، بالمناسبة، أن سنة 2019 هي “سنة العدالة التي ننتظرها لمعرفة الحقيقة ولن نقبل أن نرى الحكم طريقا للانتقام وردات الفعل”. ويستمد الحريري تأكيده من وصول بدء المحاكمات إلى مرحلتها النهائية.
وستصدر المحكمة الدولية الخاصة بلبنان حكمها هذا العام. وقالت المتحدّثة باسم المحكمة وجد رمضان، إن الكشف الرسمي عن هوية المتورطين أصبح قاب قوسين أو أدنى. وفي 21 أيلول الماضي أعلنت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، انتهاء جلسات المرافعات الختامية بقضية اغتيال الحريري، مشيرة إلى أن الحكم بالقضية سيصدر “في الوقت المناسب”.
وكانت المحكمة الدولية أعلنت في مارس الماضي عن احتمال إدانة عناصر من حزب الله بناء على الأدلة المقدّمة من فريق الدفاع. ووصف آنذاك القاضي في المحكمة، ديفيد ري، اغتيال رفيق الحريري و21 معه بالعمل الإرهابي الصريح لتخويف اللبنانيين.
وترجح مصادر أمنية أن يكون المتهمون اللبنانيون خارج الأراضي السورية، فيما تحدد مصادر أخرى إيران كبلد لجأ إليه هؤلاء المتهمون دون أن تتمكن المحكمة من الحصول على أي إثباتات في هذا الصدد. وأوقفت المحكمة ملاحقة مصطفى بدرالدين، الذي يصفه المحققون بأنه “العقل المدبر” للاغتيال بعد الإعلان عن مقتله في سوريا في 13 أيار 2016.
وتحاكم المحكمة سليم عياش (50 عاما) المتهم بقيادة الفريق الذي تولى قيادة العملية، ورجلين آخرين هما حسين العنيسي (44 عاما) وأسعد صبرا (41 عاما) بتهمة تسجيل شريط فيديو مزيف بثته قناة “الجزيرة” يدّعي المسؤولية نيابة عن جماعة وهمية. كما يواجه حسن حبيب مرعي (52 عاما) عدة تهم بما في ذلك التواطؤ في ارتكاب عمل إرهابي والتآمر لارتكاب الجريمة.