بعنوان واحد يمكن اختصار زيارة وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، إلى لبنان. في اللهجة السياسية، سيركز الوزير الأميركي على وجوب الالتزام اللبناني بالعقوبات المفروضة على حزب الله وإيران. لكن الأساس في الزيارة، قضية نفطية. فبومبيو، في مسار جولته، سيزور الأراضي الفلسطينية، وسيبارك للإسرائيليين الشروع بتشييد خط أنابيب الغاز، الذي يمتد من إسرائيل إلى قبرص واليونان، وصولاً إلى إيطاليا ومنها إلى أوروبا. وبذلك يكون الإسرائيليون قد استبقوا أي عمليات للتنقيب عن النفط والغاز في لبنان، وبدأوا الاستعداد لتوريد الغاز إلى أوروبا.
في ظل عدم الاتفاق على ترسيم الحدود البرية والبحرية، قد يهدد خطّ أنابيب النفط هذا، أحد البلوكات اللبنانية في البحر، إذ أن الخطّ المرسوم له، يمرّ في أحد الحقول النفطية اللبنانية. ومن جهة أخرى، فإن التهديد الإسرائيلي للمخزون النفطي اللبناني، يتعلّق بما يثيره دوماً رئيس مجلس النواب نبيه بري، حول “شفط” النفط من الحقول اللبنانية من قبل الإسرائيليين، من دون أي عملية ردعية من الجانب اللبناني، ولا من قبل المجتمع الدولي.
يأتي بومبيو إلى بيروت، ولديه عرض واحد للبنان، إما الالتزام بخط هوف لترسيم الحدود، أو أن يبقى خارج المعادلة النفطية حالياً. السياق المنطقي يشير إلى أن لبنان حتماً لن يكون قادراً على مواجهة هذا الخط الإسرائيلي القبرصي، خصوصاً أن له امتداداً عربياً، بالتوافق بين الإسرائيليين ومصر والأردن. فالغاز المصري والأردني سيمر إلى أوروبا في الأنابيب الإسرائيلية.
قد يتصور البعض في لبنان أن الرهان على تجاوز هذه المخاطر والمصاعب، يتركز على العلاقة مع روسيا، خصوصاً أن شركة روسية هي المعنية بالتنقيب عن النفط في لبنان. وبالتالي، فإن روسيا ستكون قادرة على حماية لبنان من مخاطر هذا الخطّ. لكن الحقيقة في مكان آخر، وما من صراع في هذه النقطة بين الاميركيين والروس. لا بل ما كان للبنان ان يمنح عملية التنقيب لشركة روسية، لو كان هناك فيتو أميركي. كما ما كان للبنان الإقدام على تلزيم خزانات النفط في طرابلس لشركة روسنفت، لو لم يكن الأميركيون قد منحوا ضوءاً أخضر لذلك، بمعزل عن الكلام حول “العتب” الأميركي.
ما من صراع بين الأميركيين والروس في هذا المجال. قد يحدث تباين واختلاف في بعض الأحيان، لكن أساس الخلاف ليس جوهرياً. أساساً، الأميركيون لم يتقدموا بأي طلب للدخول في مناقصات الشركات المنقبة عن النفط والغاز في لبنان. وهم يمسكون بالمنطقة النفطية الأساسية، أي الخليج، حيث لا تقارن بنفط هذه المنطقة. وفي مقابل الشركة الروسية في لبنان، هناك شركة روسية أيضاً في إسرائيل، والشركة نفسها هي التي ستتولى تسييل الغاز وتخزينه في حقل كاريش، وتشرف على عملية جرّه إلى أوروبا. ولا يمكن الحديث عن صراع نفطي أميركي روسي، فيما ليس هناك أي وجود لأي شركة أميركية تنافس الشركة الروسية.
الحلّ الروسي لتسوية وضع حقول النفط في لبنان، في المنطقة الجنوبية، ليس بعيداً عن الحلّ الأميركي، لا في مسألة ترسيم الحدود، ولا في كيفية استخراج النفط من البلوكات اللبنانية، وتسييله، وتصديره. وينص الحلّ الروسي، على شراء الشركة الروسية للغاز والنفط المستخرجين من الحقول اللبنانية، وتسديد ثمنهما إلى الدولة اللبنانية، وبذلك تصبح هذه المنتجات ملكاً روسياً، يحق لروسيا أن تصدّرها عبر الأنابيب الملائمة لها. ما يعني أن روسيا ستعمل على تخزين النفط اللبناني في حقل كاريش الإسرائيلي ومنه سيتم تصديره إلى أوروبا.
الأساس ليس في هذه المنطقة، بالنسبة إلى الأميركيين، فهي تعتبر هوامش نفطية، لا تحتاج إلى خوض المعارك بشأنها في لبنان وسوريا. عين أميركا على إيران وتطويعها للفوز بنفطها، وبالنفوذ الاقتصادي لاستثمار هذه القوة. وهذا أساس وجوهر الاتفاق النووي الذي وقع قبل سنوات بين إيران والغرب. الاستراتيجية الأميركية تتجه نحو إيران، ولا يعنيها الوقوف والتلهي بتفاصيل هامشية. ولذلك تنازلت عن كل هذه الملفات السياسية وغير السياسية لصالح الروس، ويعتبر الأميركيون أن تسليم الروس لهذه الملفات سيشكل عامل ضغط على إيران.
في المقابل، لدى إيران مشروع نفطي آخر في لبنان. لكن استبق الأميركيون والروس هذه الخطوة، بتلزيم خزانات النفط في طرابلس لروسيا. كان المشروع الإيراني، يعتمد على إصلاح أنابيب النفط الواصلة من البصرة إلى لبنان مروراً بحمص، وضخ النفط الإيراني إلى البصرة ومنها عبر تلك الأنابيب إلى البحر المتوسط ومنه إلى أوروبا. لكن دخول الروس على خطّ التشغيل والاستثمار، سيقطع الطريق على الإيرانيين. وسيؤدي حتماً إلى زيادة التوتر الإيراني الروسي في سوريا.
لا يمكن فصل هذه الاستراتيجية النفطية، عن الضغط الأميركي المالي والاقتصادي على إيران، خصوصاً أن الوجود الأميركي الأساسي يرتكز في مواقع تطوّق إيران نفطياً، في الخليج مثلاً، والعراق وسوريا، وعلى الحدود السورية العراقية، وفي باكستان وأفغانستان. كل هذه الدول التي تعتبر قواعد متقدمة للأميركيين تشكل طوقاً حول إيران، الغاية منه تطويع إيران واستدراجها إلى تسوية للفوز بنفطها، وليس لإسقاط النظام، ولا لترجيح كفة العرب. وبالتالي فإن الجائزة الاستراتيجية التي يبحث عنها الأميركيون لجهة النفط، هي النفط الإيراني على المدى الاستراتيجي البعيد.
وتتخذ هذه المعركة أشكالاً متعددة، ولا تزال قائمة، بدءاً من العقوبات إلى الحصار إلى التهديدات بتحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة. وهذا الأسلوب اتبعه الأميركيون مع العراق مثلاً قبل الاجتياح. وبالتالي إما أن تبقى هذه الإجراءات العقابية المحاصرة لإيران، لدفعها إلى تقديم تنازل والشروع في تسوية، تتيح للأميركيين الاستثمار بالنفط الإيراني، أو أن يقع تغيير سياسي حقيقي في إيران. هذا التغيير لا يعني تغيير النظام أو إسقاط الثورة الإسلامية، بل ذهاب إيران إلى علاقة استراتيجية مع الغرب، وتحالفية مع الأميركيين. وهذا يرتبط بجملة ملفات استراتيجية، كإعمار إيران، وفتح أسواقها أمام الشركات العالمية، والاستثمار في نفطها. ما يعني ترتيب نوع من الشراكة بين الغرب والإيرانيين تحت السقف الأميركي.
إذا ما تمّ التفاهم الأميركي الإيراني، فلا بد أن يرتبط بتسوية سياسية كبرى، سيكون الوضع في سوريا ولبنان أحد نتائجها. وبلا شك، أن أي تنازل ستقدّمه إيران، ستحصل مقابله على مردود سياسي إلى جانب المردود المالي. ولدى إيران أوراق أساسية في المنطقة، تخولّها الحفاظ على نفوذها وتأثيرها.
غاية الأميركيين معروفة، وتنطلق من الإمساك بمنطق الثنائيات، عربية (خليجية) من جهة، وإيرانية في الجهة المقابلة. بمعنى أن يكون هناك احتواء أميركي لإيران وتفاهم معها، مقابل استمرار العلاقة مع الخليج، أي استمرار المسار التاريخي نفسه، كما كان الأميركيون يديرون ثنائية العرب والإسرائيليين، وثنائية حلف بغداد بمواجهة جمال عبد الناصر. السياسة الأميركية في المنطقة واضحة وتهدف إلى الاستثمار بهذه التناقضات لا إلى إذابتها.
أخبار متعلقة :