خبر

خريطة طريق مالية تتضمن سلسلة إجراءات احترازية.. ما علاقة خفض الفوائد؟

كتبت فيوليت غزال البلعة في Arab Economic News : منذ أن أخذت حكومة حسان دياب "الثقة"، وقع لبنان في حيرة مفتوحة أفقها على جدل ونقاش في شأن ملف مستحقاته المالية، وخصوصا أن أقرب الاستحقاقات يحين بعد نحو ثلاثة أسابيع، وهي سندات "يوروبوندز" بقيمة 1.2 مليار دولار.

 

وقبل إتخاذ القرار الحاسم والرسمي، ينتظر لبنان وصول فريق صندوق النقد الدولي لإستشارته "تقنيا"، فيما استنفرت الحكومة وزرائها المختصين، والوزراء استنفروا خبراء الإقتصاد، والخبراء استنفروا أدمغتهم بحثا عن وصفات دولية مماثلة، بغية ايجاد مخارج تقي لبنان شرّ الدفع في موعده أو التخلف طوعا الى حين إعادة الهيكلة مع كل مفاعيلها.

 

من وسط تلك الضوضاء، خرج حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وكما عادته أوقات الأزمات، بحل يجوز وصفه بـ"الراديكالي" (الإصلاح الديمقراطي)، خفّض بموجبه كلفة الودائع المصرفية على مرحلتين بنسبة 5 الى 6% من 9 الى 15%، بما يعني عمليا ان حسم تلك الكلفة قياسا بانخفاض حجم الودائع من نحو 174 الى نحو 150 مليار دولار، يفضي الى وفر بقيمة 7.5 مليار دولار، مما يتيح للمصارف المساهمة في إعادة جدولة الديون المستحقة للدولة، وأيضا تغطية الديون المتعثرة للقطاع الخاص وزيادة رساميلها.

 

فقد طلب القرار الوسيط رقم 13195 من المصارف الإلتزام بـ"الحد الأقصى لمعدّل الفائدة الدائنة على الودائع التي تتلقّاها أو تقوم بتجديدها بعد تاريخ 12 شباط"، على أساس نسب الفائدة على الودائع بالعملات الأجنبية (دولار أو عملات أخرى): 2% لشهر، 3% لـ6 أشهر، 4% لسنة وما فوق. وحدّد بالنسبة إلى الودائع بالليرة اللبنانية، الفائدة بـ5.5% لشهر، 6.5% لـ6 أشهر، و7.5% لسنة وما فوق.

 

لاقت المصارف الحاكم حتى منتصف الطريق. رحّبت في بيان بخفض الفوائد وأصدرت معدلات فوائد جديدة BRR، لتصبح 6.75% للتسليفات بالدولار بدل 8.50% و9% للتسليفات بالليرة بدل 11.50%.

 

عمليا، تفسر المبادرة بأنها قرار لجدولة الديون وليس هيكلتها، وذلك بفوائد منخفضة تخفّف أعباء خدمة الدين العام التي تنهك الخزينة، وخصوصا انها تستحوذ على نحو ثلث الموازنة الى جانب أعباء الكهرباء والرواتب. كذلك، أتاحت تغطية القروض المتعثرة للقطاع الخاص، مع مفارقة بأن خفض كلفة الفوائد على الودائع لم يمسّ الودائع نفسها، والامر عينه بالنسبة الى ديون الدولة التي ستنخفض كلفة استحقاقاتها.

 

مبادرة خفض الفوائد لن تخلف أي خسائر ومن شأنها إنعاش حركة النمو بعد فترة الركود. فديون القطاع الخاص المتعثرة قابلة للتغطية من قبل المصارف، فيما سيرضخ الدائنون الخارجيون لـ"إعادة الهيكلة" كما حصل في حالات مماثلة أقربها الأرجنتين وأوكرانيا واليونان، حين طُبّق مبدأ الـ"الهيركات" الذي يعارضه سلامة حفاظا على الثروة الوطنية وعلى مصلحة المودعين بكل فئاتهم، بما يتيح لهم مستقبلا المشاركة في عملية بناء الدولة الحديثة وورشة الاستثمار عبر حوافز غير معلنة ولكنها مفيدة.

 

لم تكن مبادرة خفض الفوائد وحيدة في أجندة سلامة، اذ سبقها تعميم الملاءة الذي منح المصارف هامشا مريحا لتجاوز أوزان تثقيل المخاطر وتفادي حال التعثر المحتسبة بحسب المعيار الدولي IFRS 9 الذي يحدد متطلبات تقييم مخاطرة محافظ القروض استنادًا إلى التوقعات الأحصائية للخسائر المتوقعة من القروض المتعثرة، وذلك نتيجة التغيير الجذري في الأوضاع النقدية والمالية والاقتصادية Material Adverse Changes على نحو بات يستحيل معه قراءة المؤشرات المستقبلية.

 

فقد طلب تعميم الملاءة من المصارف تكوين "احتياطي الحفاظ على الأموال الخاصة" Capital Conservation Buffer من بين العناصر المقبولة ضمن فئة حقوق حملة الأسهم العادية على أن يبلغ 2.5% من الموجودات المرجحة. وفرض إعادة تكوين أي نقص في الأموال الخاصة (إذا تدنى عن 2.5% من الموجودات) من العناصر المقبولة ضمن فئة حقوق حملة الأسهم العادية، لبلوغ تلك النسبة خلال مهلة حدها الأقصى 3 سنوات وفقا لخطة عمل تُقدّم الى لجنة الرقابة على المصارف. كذلك، طلب تعديل وزن مخاطر التوظيفات لدى مصرف لبنان (بما فيها شهادات الإيداع) بالعملة الأجنبية، باستثناء الودائع لاقل من سنة، بحيث يصبح 150%.

 

ويستبق التعميم تقارير الرقابة الخارجية التي سيصدرها المدققون الخارجيون بعد درس ميزانيات المصارف اللبنانية، وهي ستفضي حتما الى "زيادة مخاطر البلاد" بعد المضاعفات السلبية. وفي العادة، يرغم هؤلاء المدققين التابعين لمؤسسات دولية، المصارف بخفض نسبته 40% على القروض المدينة و60% على سندات الخزينة، وذلك نتيجة المخاطر المحتسبة والتي تحتاج المصارف الى وقت لتجاوزها.

 

إن نجحت الجدولة على طريقة الحاكم، فان القطاع المصرفي سيتجاوز محنته ويخفف أثقالها ومفاعيلها. ولكن تفترض آليات الجدولة، إعادة رسملة القطاع بأموال من الخارج وبعد إصلاحات ضرورية في مسار قد يفضي إلى عمليات دمج.

 

هي خريطة طريق مالية تتضمن سلسلة إجراءات احترازية لأزمات ممكنة. مبادرة سبقت القرار الحكومي ويمكن الإفادة منها، لانها وضعت لبنان في موقع "القوي" خلال أي مفاوضات محتملة مع صندوق النقد لاختيار احدى من وصفاته العشر، لا بل تخوّله فرض شروطه، إذ مع خفض عبء خدمة الدين العام -وهو الأكبر- تصبح كل الإصلاحات أسهل، وأيضا يمكن ارجاء بعضها ومنها تحرير سعر الصرف الوطني، واعتماد رفع ضريبة القيمة المضافة على بعض الفئات والسلع، كما تتيح لمصرف لبنان الحصول على "وديعة" مالية قابلة للاستعمال، لتمويل حاجات الدولة على سبيل المثال.

 

أهمية المبادرة أنها تتيح للحكومة المضي قدما وجديا في المشروع الإصلاحي الذي تحتل الكهرباء رأس الأولويات فيه، إضافة إلى إعتماد الضريبة التصاعدية على المداخيل الموحدة التي من شانها إنعاش التوظيف الإستثماري وإعادة الرساميل إلى لبنان، فضلا عن ضبط التهرّب الضريبي والجمركي، وإصلاح قطاع الإتصالات لتعزيز إيراداته وصولا إلى مكافحة الفساد.

 

باختصار هي مبادرة الإقتصاد النقدي في دعم الإقتصاد الحقيقي. فهل تبادر السلطة والمصارف إلى تلقف الكرة وإعتماد آليات خريطة الطريق الجديدة؟