أدت حدة الأزمات المعيشية والاقتصادية والمالية التي يواجهها لبنان، وانهيار الليرة مقابل الدولار وارتفاع معدل التضخم، بالتزامن مع انتشار فيروس كورونا، الى إغلاق شركات ومحلات ومطاعم ومؤسسات تجارية وصناعية وتربوية وخدماتية ابوابها امام الشباب اللبناني والى ارتفاع نسبة البطالة بما يقدر بـ50% بحسب بعض الدراسات والاحصاءات أخيراً، فما كان على فئة الشباب الا خيارين، اما الهجرة الى الخارج او البقاء ومحاولة الصمود بوجه هذه الازمات والسعي الى لقمة عيش كريمة، وهو الخيار الاصعب لكنه الاشجع.
محمود صوفان ابن 27 ربيعا من بلدة العديسة الجنوبية الحدودية، لم يكن من المحظوظين الذين أتيحت لهم فرصة مغادرة البلاد، وفرض عليه قدره أخذ الخيار الثاني وهو البقاء في البلد ومكافحة الجوع والحرمان وندرة فرص العمل.
محمود هو الابن الاكبر لعائلة متواضعة مؤلفة من أب وأم وثلاثة ابناء، لم يسمح له الوضع المعيشي المزري الذي وصلت اليه البلاد بإكمال مسيرته العلمية وتحقيق حلمه بأن يستحصل على شهادة في ادارة الفنادق التي كان يدرسها في معهد الخيام، ففرض عليه اخذ خيار ترك تحصيله العلمي والاتجاه نحو ايجاد فرص عمل لسد متطلباته الشخصية التي عجز الاهل عن تأمينها له واستكمال بناء منزله ومساعدة عائلته، فالوالد هو عامل يومي والام ربة منزل والشقيقان هما الاصغر لا يعملان.
وجد محمود وظيفة في مطبخ في احد مستشفيات النبطية التي تبعد عدة كيلومترات عن بلدته، ومع ذلك قبل بالوظيفة وبدأ العمل، لكن الراتب لا يكفي لان ربع راتب يصرف على تأمين المواصلات، والباقي لا يكفي لتسديد الفواتير الشهرية لاي منزل والمتطلبات المعيشية اليومية. وكان لا بد منه الا ان يحاول ان يستحصل على عمل اضافي لزيادة دخله. فكان المشروع الصغير بصناعة وبيع “كعك العباس” على الطريق.
يبدأ محمود نهاره الساعة الرابعة فجرا مع والدته بتحضير عجينة الكعك وخبزه، ليعود بعدها وينطلق الى عمله في مطبخ المستشفى، وبعد نهاية دوامه يبادر الى بيع الكعك في أكياس من خمس حبات بسعر زهيد وهو 4000 ليرة لبنانية على طاولة بلاستيكية صغيرة عند قارعة الطريق العام في العديسة، بقصد ان يراه المارة ويشتروا منتوجه.
ولكن حتى هذه الطاولة الصغيرة لم تسلم من الوضع الاقتصادي المزري في البلاد الذي قد يؤدي الى قرارات جائرة بحق المواطنين وخصوصا الطبقة الفقيرة منهم، اذ يقول محمود ” محاولتي لبيع الكعك بمثابة الطلقة الاخيرة لدي، لكي أؤمن القوت لعائلتي بكرامة، ولكن خبر احتمال رفع الدعم عن الطحين، زاد من جشع التجار وادى الى ارتفاع جنوني بسعر كيس الطحين حيث وصل الى عتبة ال110,000 ل.ل وما فوق، وهو امر كارثي بالنسبة لي وللكثيرين غيري، ولن اتمكن من الاستمرار ببيع كعكاتي. الا يكفي ما نعانيه لتأمين لقمة العيش ومحاولة الصمود بوجه المصاعب التي انهكتنا وزادت الاعباء على كاهلنا”.
مع غياب أي حلول معيشية سريعة وجدية لمواجهة الأنهيار الاقتصادي الكبير، شباب لبنان يكافحون بشرف للحصول على لقمة عيش كريمة في بلد كثرت فيه الأزمات وضاعت فيه الاحلام.