رعى المطران بولس مطر رئيس أساقفة بيروت الإحتفالات التي أقامتها رعيّة مارت تقلا في الحازميّة في مناسبة المئويّة الأولى لتأسيس كنيستها الأولى عام 1918. وعشيّة عيد القديسة تقلا أولى الشهيدات، احتفل المطران مطر بالذبيحة الإلهيّة في الكنيسة التي تحمل اسمها، عاونه فيها كاهن الرعيّة الخوري جورج بدر ومعاونه الخوري روني معتوق وبمشاركة لفيف من الكهنة والرهبان والرهبات. كما شارك في القداس وزير الإعلام في حكومة تصريف الأعمال ملحم ريّاشي.
وبعد الإنجيل المقدس ألقى المطران مطر عظة من وحيّ المناسبة تحدّث فيها عن صاحبة العيد وشهادتها وإيمانها، شاكرًا أبناء الحازميّة على عاطفتهم ومحبّتهم لراعيهم، وقال: “يسرُّنا سرورًا كبيرًا أن نختتم معكم هذا المساء اليوبيل المئوي لأول كنيسة في الحازميّة لمارت تقلا، بُنيت صغيرة إنما كبيرة في أهلها منذ مئة عام، وهذه مناسبة كبيرة ملفتة، إذ انّ هذه الكنيسة قد بُنيت في خلال الحرب العالميّة الأولى، أي أننا عندما كنّا نمرُّ في ظروف قاسية صعبة لم نتوانَ عن بناء كنيسة نصلّي فيها. هذه شهادة لإيمانكم الحي، إيمان آبائكم وأجدادكم الذي يستمر فيكم، تبنون كنائس تجدّدون الحياة وكل شيء في هذا الوطن العزيز الغالي، لبنان”.
وأضاف: “نقيم هذا القداس في عيد شفيعة هذه الرعية، هذه الكنيسة بالذات، القديسة تقلا أولى الشهيدات هي تلميذة مباشرة للقديس بولس. سمعت كلام الله من فمه وعلى يديه فألهمها الربّ أن تسلم حياتها من أجله. آمنت بالمسيح ربًّا وإلهًا وتخلّت عن كلّ ما كان عندها، من فرصٍ لأنها كانت إبنة كما يقال “قوم كرام” ماليًّا واجتماعيًّا. إبنة الملوك، تخلت عن كلّ شيء لأنها وجدت الدّرة الثمينة، ربنا يسوع المسيح، والإنجيل يقول من تراه الحكيم الأمين، الشاطر الذي يطلب الجواهر الثمينة فإذا وجد الدرة الثمينة باع كل شيء له واشتراها. هي باعت كلّ شيء من أجل المسيح، تكرّست لخدمته واضطهدت اضطهادًا شديدًا. ضغط أهلها عليها وأقرباؤها لعلّها تعود عن هذا الإيمان، غير المقبول لدى عائلتها. أما هي فرفضت وأسّست بذلك، ما نسمّيه الحرية الدينية التي هي أساس كلّ حرية في الكون. أنا أختار إيماني ولا أحد يجبرني على ذلك. فإذا سلكنا هذا المسلك اخترنا الحرية في كلّ مجالاتها وهي تزّين الحياة وتعطيها قيمتها وماهيّتها. القديسة تقلا علّمتنا أن نختار الجوهر. الأمور العارضة هي أمور ثانوية ولا نقول غير مهمة. المال مهم له دوره، السلطة مهمة لها دورها ولكن قبل كلّ شيء ارتباطي بالرب ومحبّتي له ومحبته لي هي أساس حياة الجماعة كلّها وأساس حياة كلّ فرد من أفرادنا. نصلّي لها ونطلب منها أن نعرف على طريقتها أن نميّز بين ما هو جوهري نتمسّك به، وما هو عارض نتدبّر أمرنا معه بطريقة ملائمة تلهمنا إلى كلّ هذه المواقف الجريئة والمطلوبة في حياة كلّ واحد منّا”.
وتابع: “نقدم هذه الذبيحة على نيّتكم جميعًا، أهل الحازمية والجوار الحاضرين والغائبين، الأحياء والأموات وكلّ الضيوف ولسنا كلُّنا سوى ضيوف عند ربنا وإلهنا يسوع المسيح. في الكنيسة ما من أحد ضيف إلاّ ضيف الله وحتى مع الله، صرنا له أبناء ولنا الحقّ عنده هو الذي أعطانا هذا الحق، فالشكر له من الآن وإلى الأبد. وقد أردتم يا أيها الأحباء في الحازمية، يا حضرة الكهنة وحضرة رئيس البلدية والأعضاء والمخاتير أن تكرّموا راعيكم ومطرانكم مع شكري العميق لكم ولمحبّتكم التي هي كنزٌ لي وغنى. أتأمل بما قاله بولس الرسول، عندما أرادوا أن يكرّموه ويلفتوا الأنظار إلى خدماته. قال بولس: عليّ واجب أن لا أقبل أيَّ إكرام لأني أنا مأمور من الله. أنا لا أقوم بخدمة الإنجيل لأني أحبّها وحسب، أقوم بخدمة الإنجيل يقول بولس الرسول، لأن الله أمرني بذلك ولا فضل لي. لا فضل لي إطلاقًا وأنتم تعرفون كلمة الربّ. عندما تقومون بكل شيء وتصنعون ما يجب أن تصنعوه. قولوا بعد ذلك إننا عبيد بطّالون ما عملنا إلاّ ما طلب الله منّا، أن نعمله فله الإكرام وحده وله الشكر إلى الأبد”.
وأردف: “نحن يا إخوتي، نسمع كلامًا من بولس الرسول وهو شفيعٌ لي، يقول للذين أتى بهم إلى الإيمان، يقول لهم: لا أطلب شيئًا منكم بل أطلبكم أنتم، أن تكونوا أحباء الله وأن تكونوا إخوةً بعضكم لبعض. وإذا كان لنا من كلمة أبوّة نقولها لكم الأب لا يرتاح، إلاّ إذا كان أبناؤه ينفّذون كلام الله ويحبّون بعضهم بعضًا. بهذا يعرف العالم أنكم تلاميذي إن كان فيكم حبٌّ بعضكم لبعض. بادروا يقول القديس بولس بعضكم لبعض بالإكرام، كإخوة وأنا كما يقول القديس اغسطينوس: أنا أخٌ معكم وأبٌ من أجلكم، أخٌ معكم بالإيمان وأبوكم بالإيمان أيضًا، أي أعطيه من لدن الله للناس لكي يحيوا ويعيشوا”.
وقال المطران مطر: “نحن اللبنانيين نتمسك بكلمة أساسية في الميثاق الوطني، أننا كلنا شركاء.هناك فرق أن يشارك الإنسان في مصير الجماعة وأن لا يكون محسوبًا على أحدٍ. نحن نتشارك بعضنا مع بعض في حمل المسؤوليات وهذا حقٌ لنا وأيضًا واجبٌ علينا، لكن الشركة هي روح أيضًا، هناك فرق أن أكون مشاركًا بمعنى الأخذ وتصبح المشاركة قسمة وأن أكون مشاركًا بمعنى التضامن والأخوّة فتكون المشاركة ارتباطًا بعضنا مع بعض. القضية قضية روح. الدول تحكمها الدساتير، القوانين وهذا أمر أساسي في حياتنا اللبنانية. أننا نسعى أن نكون دولة حق ودولة قانون يحترم فيه الناس بعضهم بعضًا باسم القانون وإنما التجارب تعلّمنا أن الدساتير مهما كانت دقيقة لا تفي بالغرض. إلاّ إذا كان فيها روح وطنية تربط الناس بعضهم ببعض. في لبنان عندنا الدستور وعندنا الميثاق الوطني، في لبنان عندنا دستور ولكن عندنا روح وطنية تربطنا جميعًا. إذا فقدنا هذا الروح، الدساتير لا تعد تفي بالغرض. لذلك ما نعمله من أجل التوافق والحوار المستمر بيننا هو عمل مبارك حتى تسلم الحياة بيننا والمقاصد. ثم توزّع الأحكام باسم هذه المحبّة وهذه المقاصد. نحن مسؤولون عن روح ما في لبنان هو روح لبنان، روح الوطن الواحد، روح الكرامة لجميع الناس، روح الحرية والمحبّة. غبطة أبينا البطريرك، أطلق شعارًا “الشركة والمحبّة”. الشركة دون المحبّة لا تكفي. والمحبّة دون الشركة تكون مائعة. لذلك نربطها بعضها ببعض. وأنا أطلقت شعارًا : الحقيقة في المحبّة. الحقيقة أساس لأنها تخلّص. “الحق يحرركم”. ولكن دون المحبّة الحقيقة تجرح. المحبّة أساس ولكنّ دون الحقيقة تكون مائعة. اربطوا الحقيقة بالمحبّة هكذا نصل الى الغايات التي يجب أن نصل إليها. فكل الأبناء يكرمون آباءه.م يكرمونه بمحبّتهم بعضهم لبعض في تضامنهم في هذه الروح العالية التي تعرف كيف تسامح، كيف تغفر كيف تقبل وتصبر وكيف تلملم الجراح بسعة ومحبّة لا حدود لها. عندئذٍ تستقيم الحياة ونكون شهودًا لمحبّة الله الذي أحبّنا ونحن خطأة فطهرنا وقدّسنا وجعلنا أبناء أعزاء.
شكرًا لكم يا أبناء الحازمية ويا رئيس البلدية والأعضاء. شكرًا لكم لأنكم تسلّمتم زمام هذه البلدة فتحوّلت من بلدة صغيرة الى مدينة واسعة منظمة. هذه مسيرة علينا أن نسيرها نحن اللبنانيين في كل مكان من وطننا وبلادنا، أن نحوّل هذه البلاد إلى مدينة واسعة منظمة كبلدان الدنيا بأسرها. نحن نقوم بالمعجزات خارج البلاد، تعالوا نقوم بالمعجزات داخل بلدنا العزيز الغالي. عند ذاك يرضى الله عنّا ويكرّمنا لأنه هو الكرامة بعينها. هو الذي أعطانا أن نكون كبارًا. وقال لنا الكبير هو الذي يخدم، الكبير هو الذي ينعطف إلى الآخرين، الكبير الذي يخرج من ذاته ويسعى الى الآخر. هذه المسافة هي الأعظم بيني وبين الآخر. قال فيلسوف غير مؤمن لا يأبه بالآخرين “إذا رأيتم الآخرين سلموا عليهم”. كلا نحن مسيرتنا نحو الآخر الذي هو صورة الله والآخر المطلق هو ربنا يسوع المسيح وهو الله بالذات، هو الآخر المطلق وأنا على صورته ومثاله. لذلك هذه المسيرة مهما كانت صعبة سيروها نحو بعضكم. ولذلك تكتشفون الغنى والكنوز والله يوفقكم في كلّ عمل صالح.
مبارك هذا العيد، عليكم وعلى الوطن وأتمنى من كلّ قلبي أن يسوع هذا الوطن حوار دائم ولا بدّ أن الله يوفقنا في هذا العمل، وأقول لأهل الحازمية إنّكم في قلبي وفي صلاتي مثل كلّ الرعايا، وشكرا لما عملتم وتعملون والله وحده يكافئكم خيرًا مع وصيّة أن نكون كلّنا أبناء للآب الذي في السماء، نعظمّه ونكرّمه لمحبّتنا بعضنا لبعض له المجد والعزة والجلال من الآن وإلى الأبد”.