كتب أمين عام ملتقى mosaïque الدكتور شربل عازار:
العديد من الأحزاب والسياسيّين والمحلّلين والناشطين في المجتمع المدني وغيرهم ينادون بتغيير النظام ليُصبح نظاما” غير طائفي، لأن كلّ ما حصل وما سوف يَحُلّ من مآسٍ في الوطن مستقبلا”، ناتج بحسب رأيهم، عن هذا النظام وقد نعتوه في بعض الأحيان بأقذع الأوصاف.
الآن كَبُرَت المطالبة بإعادة النظر بالدستور بعد أن صار هذا مطلب الكتلة النيابية الأكبر وإن كان تحت مسميّات مختلفة.
بالعودة الى التاريخ الحديث، وصلنا الى اتفاق الطائف ولن نعود الى المسبّب والأسباب، ولكن بالقراءة المتأنّية وبما قاله موقّعوه من حسين الحسيني الى حسن الرفاعي الى ادمون رزق الى بطرس حرب الى نجاح واكيم الى البير منصور الذي كتب “الإنقلاب على الطائف” نفهم انّ ما تمّ تنفيذه في العقود الثلاثة الأخيرة هو تقاسم القادرين لخيرات “الدولة المركزية” لصالح إطعام الدويلات، وقد تمّ حلب دولة الطائف حتى آخر قطرة لحم، الى أن أصبحت هيكلاً عظمياً بالكاد قادرة على التنفس.
ثلاثة عقود قسّمتها الصدفة قسمين متساويين تقريبا”،
من العام ١٩٩٢ لغاية ٢٠٠٥ تقاسمت المكوّنات المُسلمة في الوطن، إضافة الى بعض الشخصيات المسيحيّة، جبنة البقرة الحلوب، الدولة المركزية، وأطعمت دويلاتها كافة، فإلى الوزارات والمؤسسات والصناديق والصفقات والسمسرات تمّ حشو الدولة المركزيّة بكلّ المحاسيب والزلم والجماعات لتُرضع الدولة المركزية أعدادا” تنوء تحت نهمها وعددها كبريات الإقتصادات العالميّة.
بعد العام ٢٠٠٥ إنضمّ فريق مسيحيّ الى الأفرقاء الآخرين مطالبا” بعدالة إعادة توزيع “الجبنة المركزيّة” بالتساوي على الجائعين والعطشانين والمتعطّشين بإسم الحقوق والمعايير وكل تعابير اللغة المماثلة.
المهمّ، الدولة المركزية التي لم تعد قادرة على التنفسّ وصرعتها كورونا الجشع المتمادي، تبقى وبالرغم من إحتضارها تبقى قُبلة القوى المفترسة.
في العودة الى الموضوع الأصل وهو طرح تغيير النظام،
فلنُجرِ مُحاكاة إفتراضيّة أولى على أرض الواقع اليوم، ولنعتبر جدلا” أن النظام الجديد في دولة لبنان الموحّد قد أوصل مع حفظ ألقاب الجميع،
نبيه برّي الى رئاسة الجمهوريّة وميشال عون الى رئاسة الحكومة وسعد الحريري الى رئاسة مجلس النواب وعماد عثمان السنّي الى قيادة الجيش وجوزيف عون الماروني الى مديرية الأمن العام وعباس ابراهيم الشيعي الى مديرية قوى الامن الداخلي وغسان عويدات السنّي او علي ابراهيم الشيعي الى رئاسة مجلس القضاء الأعلى وحسن وزني الى حاكمية مصرف لبنان ورياض سلامة الى وزارة المال …..والى ما لا نهاية في تبديل الطوائف والأسماء،
هل كنّا سنسلك طريق السماء بدل طريق جهنّم، وهل كانت لتأتي الكهرباء وتمتلىء السدود وتعمل محطات التكرير ويزدهر قطاع الإتصالات ويعود القطار المشتاق لسكّته ويلاقيه ابن عمّه المترو، وتتوسّع شبكة طرقاتنا وتزدهر البنى التحتيّة وتُولِّد نفاياتُنا الطاقة ويَرْحَل التلوث الى غير رجعة، وتَلْتَزِم “الإلتزامات” في الوزارات والمؤسسات والصناديق بالقوانين ومعايير دائرة المناقصات، وتُضبط الجبايات ويُمنع إحتكار البنزين والغاز والكاز والمازوت والدواء والطحين والمواد الأساسيّة، وتُضبط المعابر الشرعيّة وغير الشرعيّة من المرافىء الى المطار الى الحدود المفتوحة أو المخروقة؟ وهل تعود اموال الناس وجنى أعمارهم إليهم؟ الخ الخ..
في مُحاكاة ثانية إفتراضيّة ردّا” على الذين يُطالبون بقانون إنتخابي خارج القيد الطائفي، ولنعتبر أنّه، بسحرِ ساحرٍ، إنقرضت فئة من اللبنانيّين وأصبح لبنان كُلّه من طائفة واحدة، وكذلك دولته ومسؤوليه وموظفّيه من طائفة واحدة في كلّ المواقع، هل سيسلك هذا اللبنان طريق الخلاص والإزدهار ويُصبح مثالا” للبلدان الأكثر تطورا” والأكثر بحثا” عمّا يُسعد اللبناني مع وزارات للسعادة والفرح والضحك والشيخوخة الهانئة وراحة البال؟
محاكاة ثالثة للمطالبين بدولة مدنية مع لامركزية إدارية ماليّة انمائية……موسّعة.
من هي القوى السياسيّة التي ستُدير هذه اللامركزيّة أو الفديرالية أو الكونفدرالية؟ وبماذا سيختلف أداؤها عمّا هو عليه اليوم، هل ستكون المصلحة العامة هي الهدف الأسمى دون الإلتفات الى مصالح “جماعتنا وزلمنا ويللي بخصّونا” والباقون يصبحون على قارعة الطريق منبوذين مرميّين لاتهامات التخوين والتآمر لوقف قطار التطوّر والإنماء في البيئة اللامركزية؟
الى كلّ المطالبين بتغيير النظام، هاتوا الضمانة أن تغيير النظام يغيّر سلوكهم ونحن سنكون أوّل المبشّرين بالأنظمة والقوانين التي تقترحون للوصول الى هذا المرتجى.
المهم أن نحترم عقول بعضنا البعض، فنرفض جميعا” أيّة مقترحات وأفكار تكون لها خلفيّات إلغائية تحت عناوين ومسميّات برّاقة غالبا” لا يفهمها مُطلقها، ومن أدرك معانيها فهو بطروحاته هذه يستضعف ذكاء الآخرين فيسعى يائسا” أن يأخذه على حين غُرّة.
الوطن وشعبه ليس مجموعات مافيات تَكْمُن لبعضها البعض طمعا” بالإلغاء والسيطرة على الكلّ بدل الجزء، وهذا ما حذّر منه البطريرك الراعي حين قال:
“إن كان ثمّة من يراهن على سقوط الدولة، فليلعلم أن هذا السقوط لن يفيده ولن يفتح له طريق انتزاع الحكم لأن الإنتصار على بعضنا البعض مستحيل بكلّ المقاييس…”
وبالعودة الى المحاكاة بفرضيّاتها الثلاثة أعلاه، العلّة ليست ولا يُمكن أن تكون بالنظام، فأسوأ نظام في العالم يوصل الى الخلاص عندما يطبّقه رجال الدولة الطامحين الى دخول التاريخ من بوابة ما أنجزوه لشعبهم ولوطنهم،
وأفضل نظام في العالم يوصِل الى الإنهيار حين يتسلّط القيّمين عليه على رقاب الشعب وعلى أمواله ومصالحه فيختصرون الوطن بالمحاسيب والمتزلفّين والمستفيدين، هؤلاء المسؤولين سيلعنهم التاريخ.
وعلى الطبقة السياسيّة الجديدة، التي سينتُجَها وعي الفرد والجماعة لا محالة بعد ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩، عليها أن تختار بين الخلود على صفحات التاريخ أو السقوط في مزبلته.