وجه مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان رسالة الى اللبنانيين، لمناسبة السنة الهجرية الجديدة قال فيها: “تحل ذكرى الهجرة النبوية هذا العام، والنكبات تحيط بالشعب اللبناني، الذي تشبه حالته أحوال القلة من المسلمين بمكة، إبان العام ستمئة واثنين وعشرين للميلاد، عام الهجرة إلى يثرب، التي سماها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه المدينة المنورة فلنتصور أوضاع تلك القلة من المؤمنين بالرسالة، وقد أرغمهم بنو قومهم على الاعتزال في الشعب، وهو مضيق بين جبلين بجوار مكة، بدون ماء ولا غذاء، حتى اضطروا لأكل ورق الشجر! لقد كان المطلوب منهم التنكر للدين الذي آمنوا به، والعودة لعبادة الأوثان.
وأضاف، “الكبار الكبار، آثروا الحصار فالهجرة على العودة إلى أوضاعهم السابقة البائسة. ولأن ثقتهم بربهم كانت كبيرة، وبصدق نبيهم كان عظيما؛ فإنهم هاجروا إلى الحبشة، ثم إلى يثرب حيث أمرهم نبيهم، ومن هناك، وبعد سنوات من الكفاح، عادوا إلى مكة، وقد صارت بعودتهم موطنا للعيش الرحب والمتسامح، لا يضطهد فيها أحد، ولا يجوع أحد أو يحاصر. وهكذا فإن هجرة أسلافنا الأوائل ما كانت في الحقيقة هجرة من الديار، بل إلى الديار، ومن أجل التغيير إلى الأفضل والأحسن والأشرف. لقد كانت المعاناة شديدة، واستشهد كثيرون من المهاجرين تحت الحصار أو في الحروب، لكن الحياة الجديدة، صارت بعد النضال ذات معنى تهون من أجله وفي سبيله التضحيات”.
وقال: “نعم، نحن محاصرون، وليس في شعب واحد، بل في شعاب. محاصرون في شعبة المحروقات. ومحاصرون في شعبة الدواء. ومحاصرون في شعبة الغذاء. ومحاصرون في شعبة الوباء. ومحاصرون في شعاب لا تكاد تحصى، وأولها وأهمها أنه ممنوع علينا أن تكون عندنا حكومة، يمكن أن تدير شؤوننا، وتخرجنا من الندرة، ومن أهوال الجوع والفقدان: فهل الحالة التي نحن فيها تستدعي الهجرة؟ لقد فارقنا عشرات الألوف من الأكفياء الأذكياء، خلال العامين الماضيين، فازددنا بؤسا وفقرا. لذلك، ورغم شبه حالتنا بحالة المستضعفين في شعب مكة، إنما يبدو أننا نحن اللبنانيين الذين دأبنا على الهجرة منذ قرن ونصف، ما استطعنا القيام بما قام به مهاجرونا الأوائل، خلال بضعة أعوام. لقد بحث المهاجرون الأولون من المسلمين عن معنى جديد لحياتهم فصنعوه في المدينة المنورة، ثم عادوا فأعطوا هذا المعنى لمكة المكرمة التي صارت بالبيت الحرام، مثابة للناس وأمنا. فمن الذين يحاصروننا في لبنان اليوم، ومن الذين يريدوننا أن نهاجر ولا نعود؟ إنهم هم أنفسهم الذين يضنون علينا ومن أموالنا بالغذاء وبالدواء وبالمحروقات، بل ولا يسمحون بتشكيل حكومة أو جهة يمكن لنا التوجه إليها بالسؤال والمحاسبة، أو حتى بالشكوى! ماذا يريد الذين يحاصروننا منا إذن؟”.
أضاف: “يريدون ألا نتمسك بوطننا وبمجتمعنا، وبعيشنا المشترك، وبالمعنى الكبير للبنان الرسالة. راقبت قبل أيام عشرات الآلاف من شباب لبنان وشاباته، وشيوخه وأطفاله، وهم يجتمعون بالمرفأ ومن حوله، ينعون من فقدوا، ويعلنون التصميم على مطالب العدالة. وهم بذلك يعلنون الإيمان بوطنهم، ويطلبون الأمانة والثقة في إدارة شؤونه، ويفتقدون الإحساس بالمسؤولية، من جانب أولئك الذين يعتزون بالسيطرة عليهم: فهل هي سيطرة من أجل الإفقار والتهجير؟”
أضاف: “تشكيل الحكومة، حكومة الإنقاذ التي يريدها اللبنانيون والمجتمع العربي والدولي، هي بداية حل آلام المواطنين وعذاباتهم، والأزمة اللبنانية، حلها بيد اللبنانيين، فهم الذين يعانون عدم توافر أسباب العيش الكريم، لذا عليكم أيها المسؤولون أن تقدموا مصلحة لبنان على كل مصالح الآخرين، وأي كلام غير هذا، مضيعة للوقت، وإلهاء للناس، الذين يتخبطون في أزمات معيشية واقتصادية وأمنيه أحيانا، والدولة والسلطة الحاكمة، تتحمل مسؤولية ما وصل إليه الوضع في لبنان، من اهتراء وانهيار أطاح بكل مقومات الحياة الكريمة. الفساد يعم البلاد، والإصلاح يتطلب جهودا كبيرة من الحكومة العتيدة، التي نأمل أن تشكل خلال أيام قليلة، فالتأخير في التشكيل، يدفع ثمنه المواطنون جميعا، من حياتهم وأرزاقهم ومستقبلهم ومستقبل أبنائهم، وهذا خطر على كيان الدولة التي تكاد تلفظ، أنفاسها الأخيرة، ومع هذا يبقى الشعب اللبناني صابرا محتسبا، يحمل في نفسه ثقة لا تزعزعها الأنواء، ويبقى في قلبه صبر وإيمان بأن الحق سيعلو، وأن الوطن سينهض، وأن ما تقدمه الدول الصديقة من جرعات دعم وعد بها لبنان في مؤتمر الدعم الدولي المنعقد أخيرا سيكون أول الغيث”.
وتابع: “فيا مسؤولي لبنان ويحكم ماذا فعلتم بلبنان وماذا تنتظرون لإنقاذ بلدكم؟ أما كفاكم تلهيا بخلافاتكم، وتنازعا على مكتسباتكم وحصصكم؟ أين المسؤولية الوطنية؟ أين المبادرات الفورية والعاجلة لإنقاذ اللبنانيين الذين جنيتم عليهم، وأدخلتموهم في نفق الذل والهوان، أين أنتم؟ بل أين هي المسؤولية منكم؟، لا يسعنا إلا أن نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل”.
وقال: “لا مكان للفتنة بين المسلمين في لبنان، كما أنه لا مكان للفتنة بين اللبنانيين، رغم تنوعهم السياسي والفكري، فلبنان أمانة هذا الشرق العربي ورسالته، وما حصل خلال الأيام القليلة الماضية، يحتاج إلى كثير حكمة ورجال، ودولة تعي المخاطر التي تهدد وجودها والكيان، فالعدو الصهيوني الحاقد، لا يميز بين اللبنانيين ولا بين مناطقهم. أيها المسؤولون، اتقوا الله في هذا الوطن، واتقوا الله في عذابات المواطنين الذين يبحثون عن الغذاء والدواء والماء والكهرباء والمحروقات، فيما الغلاء والبلاء والوباء يفترسهم، فماذا أنتم فاعلون؟”