تلجأ بعض الشخصيات السياسية إلى تصوير «حزب الله» أنه يُمسك بكل الوضع السياسي، في موقف مفهوم لديها للمزايدة على القوى التي تعتمد سياسة المُساكنة وربط النزاع مع «الحزب»، لكنّ هذا التصوير ليس في محله، و«الحزب» ليس في أفضل أيامه.
هناك «حقيقة مرة» يجب الإقرار بها وهي انّ «حزب الله» في زمن الانقسام العمودي بين 8 و 14 آذار كان في موقع قوة أكبر بكثير من اليوم، وذلك للأسباب الآتية:
ـ أولاً، لأنه كان رأس حربة 8 آذار إنطلاقاً من سلاحه وماله وعمقه الإقليمي، وبالتالي كان يرأس عملياً هذه القوى ويحرِّكها ويديرها.
ـ ثانياً، لأنّ البلد كان مقسوماً عمودياً بين من هو مع سلاح «حزب الله» ومن هو ضده.
ـ ثالثاً، لأنّ الحياة السياسية كانت غائبة ومغيّبة، والنقاش ينحصر في موضوع السلاح.
وقد أثبتت هذه المرحلة بنهايتها انّ أحداً غير قادر على إلغاء الآخر، فلا فوز 14 آذار في الانتخابات قابل للصرف في الحياة السياسية، ولا سلاح «الحزب» قادر على أن يعيد لبنان إلى ما قبل خروج الجيش السوري منه، وكان يمكن لهذا الوضع ان يستمر لسنوات من دون ان يتمكن ايّ طرف من تغليب وجهة نظره على الآخر، لأن لا حل للأزمة اللبنانية بمعزل عن حل الأزمة الإقليمية المتصلة بالدور الإيراني في المنطقة.
وما يجب الإقرار به أيضاً هو أنه لمجموعة عوامل واعتبارات تراجَعَ زَخم 14 آذار، وهذا التراجع مَردّه الى غياب القدرة على تحقيق العناوين التي رفعت، وهو الزخم نفسه الذي ينطلق مع أي شيء جديد قبل ان يبدأ بالتراجع.
وفي عزّ ذاك الانقسام فتحَ «حزب الله» حرباً مع إسرائيل في تموز من العام 2006، واستخدمَ سلاحه في الداخل في أيار 2008 وأسقطَ حكومة الرئيس سعد الحريري ولجأ إلى «القمصان السود»، وخرج من لبنان إلى سوريا ومنها للقتال في كل المنطقة، ولم تنجح 14 آذار في وَقفه ولجمه ومَنعه، على رغم الدعم الدولي ورزمة القرارات الدولية التي صدرت في تلك المرحلة.
وفي مقارنة بسيطة بين وضع «حزب الله» في زمن الانقسام بين 8 و14 آذار، وبين وضعه بعد انفراط هذا الانقسام إدارياً، لأنّ الخلاف الجوهري ما زال نفسه، يمكن ملاحظة الآتي:
ـ أولاً، لم يعد «التيار الوطني الحر» رأس حربة في خيارات «حزب الله» ضد 14 آذار عموماً، و«المستقبل» و«القوات اللبنانية» خصوصاً، بل أدى انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية إلى انتقاله إلى المساحة الوسطية التي يمسك فيها العصا من وسطها، فيعطي «الحزب» بعض المواقف التي تربط سلاحه بحل الأزمة الإقليمية يقيناً منه أنّ خلاف ذلك لا يقدّم ولا يؤخّر وتجربة 14 آذار حيّة تُرزق، ويمارس عملياً بما يتناقض مع سياسة «الحزب» من إصراره على ان تكون السعودية أولى زياراته الخارجية إلى رفضه زيارة الرئيس بشار الأسد وصولاً إلى مصالحته مع «القوات اللبنانية» وتحالفه مع «المستقبل» الذي وصل إلى حدود لم يعد «الحزب» فيها مطمئنا إلى هذا التحالف.
فلا يمكن اعتبار «التيار الوطني الحر» اليوم صورة طبق الأصل عن الأمس، ومن الطبيعي أن يحافظ على علاقته الوثيقة بالحزب، ولكن ضمن حدود ألّا تنعكس سلباً مع علاقاته الداخلية والخارجية الخليجية والدولية، ولم يعد التيار مستعداً لخوض مواجهات بديلة او بالواسطة عن الحزب.
ـ ثانياً، لا يختلف وضع النائب سليمان فرنجية كثيراً عن الرئيس ميشال عون على رغم أنه في صميم خط «حزب الله» وتوجهاته، وعدم الاختلاف مردّه الى حسابات فرنجية الرئاسية والتي لا يمكن ان تتحقق إلّا من خلال أخذه في الاعتبار موازين القوى الخارجية والداخلية، الأمر الذي يتفهّمه الحزب، لأنّ الزمن الذي كانت فيه دمشق ناخباً أوحَد انتهى إلى غير رجعة، ولم تنجح طهران في أن تكون البديل الأوحد على غرار دمشق، ما يعني انّ عليه أن يأخذ في الاعتبار العامل السعودي والأميركي، وكذلك العوامل الداخلية التي تبدأ من «بيت الوسط» ولا تنتهي في معراب.
ـ ثالثاً، لا تأثير لـ«حزب الله» مسيحيّاً خارج «التيار الوطني الحر» وتيار «المردة»، وبالتالي هو يَفتقد الى قاعدة مسيحية صلبة مؤيّدة لخياراته بمعزل عن التيارين وعلى غرار الحالة السنّية المُجسّدة في سنّة 8 آذار، والتي بدورها تحتاج إلى مراجعة وتمحيص وتدقيق لتَبيان حجم تأثيره على هذا المستوى كَون الصورة الموجودة مُضخّمة وغير واقعية.
وقد لمس أنه في المحطات التي تَبايَن فيها مع «التيار الحر» كيف تَشنّجَ الوضع على مواقع التواصل الاجتماعي بين الطرفين من الانتخابات النيابية في دائرة كسروان – جبيل، ورفض التيار أخذ مرشح الحزب على لائحته، إلى مواقف الوزير جبران باسيل من الهجوم على الرئيس نبيه بري واعتباره أن لا عداء إيديولوجياً مع إسرائيل، وكل ملف تشكيل الحكومة ومتمّماته، ولا شك انه غير مرتاح إلى هذا الوضع وبدأ يبحث عن البدائل التي تمنحه تمثيلاً مسيحياً مباشراً بمعزل عن القوى السياسية الحليفة له.
ـ رابعاً، حاول عون التمدد خارج إطار الطائفة المسيحية من موقعه كرئيس للجمهورية وتحت عنوان العابر للطوائف، وفي حين أقفلت الثنائية الشيعية الباب في وجهه، فشل سنياً في ان تكون لديه قاعدة ثقل فعلية، وهذا ما أثبتته الانتخابات النيابية، كذلك أثبتت انه في حاجة الى تيار «المستقبل» أكثر من حاجة الأخير إليه.
وبالتالي، لم يَتبقّ له سوى الحالة الإرسلانية التي وجدت أيضاً انّ مصلحتها الانتخابية معه أكبر من مصلحتها مع «حزب الله» ربطاً بالديموغرافيا المسيحية في منطقة عاليه وبعبدا وبقدرة عون على توفير الخدمات التي تحتاجها، ولذلك افتقد «الحزب» عملياً إلى موطئ تأثير درزي نجحَ عون في استمالته إليه.
ـ خامساً، أثبتَ النظام السوري أنه كان على «حق» في التوجّه الذي اعتمده حيال «القوات اللبنانية» لجهة عزلها وتطويقها، لأنها في اللحظة التي تخرج فيها من القمقم، كما قال الدكتور سمير جعجع أخيراً، تنجح في التمدد عمودياً وأفقياً وتتحوّل الرقم الصعب وطنياً كما كانت تاريخياً، وهذا ما حصل عملياً.
ومعلوم انّ هذا الوضع يُقلق «حزب الله»، لكنّ ضرورات التبريد السياسي ومقتضيات الحياة السياسية وتقاطعاتها الجزئية وحاجة الحلفاء تستدعي منه غَضّ النظر عن تَوسّع «القوات» التي يصنِّف الخلاف معها بأنه من طبيعة عقائدية واستراتيجية، وهذا التوسّع يتجه نحو فصول جديدة من التمدد لاعتبارات داخلية لا يَتّسع المقال إلى تفصيلها.
ـ سادساً، صحيح انّ «حزب الله» وضع كلفة كبرى بشرية ومادية ومعنوية في قتاله دفاعاً عن النظام السوري، لكنّ الأخير لن يرد له الجميل في حال وجدَ انّ مصلحة استمراره ولو المؤقتة تستدعي التقاطع مع موسكو من ضمن تَوجّه أميركي للتضييق على الدور الإيراني في المنطقة، بدءاً من اليمن مروراً بالعراق وسوريا ولبنان. وفي مطلق الحالات لا يمكن الاستهانة بالعقوبات الأميركية الجديدة على طهران، ولا الاستهانة بالقرار الأميركي بتغيير الدور الإيراني في المنطقة.
ـ سابعاً، لا بأس من مقارنة بسيطة بين دور «حزب الله» في زمن 14 آذار ودوره في هذا الزمن، لملاحظة انّ الفارق كبير جداً.
وحيال كل ما تقدّم من اعتبارات يتبيّن أنّ وضع «حزب الله» في مرحلة الانقسام العمودي كان أفضل بكثير من وضعه اليوم، خصوصاً انه في لحظة تحوّلات خارجية مركزها طهران والجوار، وتحوّلات داخلية مسيحية وشيعية بدأ التفكير في طريقة مواجهتها منذ الآن.
وبالتالي هو بحاجة إلى مراجعة سياسية جدية وإعادة تقييم لكل هذه الصورة ومن ضمنها دوره بطبيعة الحال، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل بدأ «حزب الله» عملية مراجعة سياسية لِما سَبق ولِما سَيلحق؟