وجه بطريرك انطاكيا وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك يوسف العبسي رسالة عيد الميلاد بعنوان “لما بلغ ملء الزمان … أرسل الله ابنه… مولودا من امرأة” (غلا 4: 4-7)، وجاء فيها:
“تحتفل الكنيسة اليوم بميلاد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح بالجسد. قد يبدو حدث الميلاد ردا، جوابا على خطيئة الإنسان الأولى، على خطيئة العصيان والتمرد، وعلى خطيئة محاولة سرقة الألوهة، التي ارتكبها آدم وحواء الإنسانان الأولان، على ما ورد في العهد القديم. لكن المرء يتساءل، كم هي كبيرة هذه الخطيئة حتى جعلت الله تعالى يتجسد لكي يمحوها ويقضي عليها، كم هي ثقيلة حتى جعلت الله تعالى يتدخل بمثل هذا التدخل؟ ألم يكن في مستطاع الله تعالى أن يغفر للانسان ويصفح عنه بطريقة أخرى؟ أن يتدارك خطيئة الإنسان ويتصدى لها ويعالجها بغير هذا الأسلوب؟
بلى. وفي الواقع ليس الميلاد جوابا على خطيئة الإنسان بقدر ما هو استجابة لرغبة أو حلم في الإنسان من جهة وإظهار لإرادة الله من جهة أخرى، بمقدار ما هو تلاقي رغبة الإنسان وإرادة الله، وهما أن يصبح الإنسان مشاركا بالنعمة لله في الألوهة.
يقول القديس بولس في رسالته: “لما بلغ ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودا من امرأة، مولودا تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبني” (غلا 4: 4-7). ماذا يعني بقوله “لما بلغ ملء الزمان”؟ يعني أنه حين حان الأوان. في وسعنا أن نستشف من هذه العبارة أن خطيئة الإنسان لم تكن في أنه حلم أو رغب في أن يصير إلها، بل في أنه أراد أن يكون إلها قبل الأوان الذي حدده الله، وبغير الطريقة التي أرادها الله وبمنأى عن الله. وتكون هكذا خطيئة الإنسان خطيئة طيش وتكبر وادعاء. لكن هذه الخطيئة لن تقضي على رغبته في الألوهة ولا على إرادة الله في إشراكه في هذه الألوهة.
فإن الله تعالى كان، برضاه، مصمما على منح الإنسان الألوهة، أخطأ الإنسان أم لم يخطىء، فإن شجرة الحياة وشجرة معرفة الخير والشر كانتا مزروعتين ومنتصبتين طيبتين للأكل، متعة للعيون، ومنية للتعقل كما ورد في الكتاب المقدس، لكن وقت قطافهما ما كان بعد قد حان. وقد كشف عن هذا التصميم، تصميم الله، الإنجيلي يوحنا بإعلانه: “أما الذين قبلوه، أولئك الذين يؤمنون باسمه، فقد آتاهم أن يصيروا أبناء الله، أبناء لم يولدوا من دم ولا من رغبة جسد، ولا من إرادة رجل، بل من الله” (1: 12 – 13).
إنما أراد الله أن يمنح الإنسان الألوهة بوسيلته هو. وهذه الوسيلة كشف عنها القديس بولس بقوله: “أرسل الله ابنه مولودا من امرأة”. وهذه الوسيلة هي ميلاد ابن الله وتجسده. هذا ما تعبر عنه صلواتنا الليترجية بقولها “إن السر الخفي منذ الأزل والمجهول عند الملائكة، قد ظهر للذين على الأرض بك يا والدة الإله. وهو الإله تجسد باتحاد لا اختلاط فيه. وتقبل الصليب طوعا من إجلنا. وبه أقام أول من جبل، وخلص من الموت نفوسنا”. وهذا الميلاد غفر خطيئة آدم وحواء ومنحهما البنوة الإلهية معا، في آن واحد، كما يردف القديس بولس بقوله: “ليفتدي الذين تحت الناموس”، أي ليغفر خطاياهم ويصالحهم مع الله، و”لننال التبني”، أي لنصير أبناء الله ووارثين لألوهته.
حصولنا على البنوة هو إذن عن طريق ابن الله المتجسد. هذا ما أشار إليه القديس البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته الألف الثالث (رقم 6) بقوله: “إن الله ذاته يتكلم في الكلمة الأزلي الذي صار بشرا. هنا نلمس النقطة الجوهرية التي تميز المسيحية من سائر الأديان التي عبر فيها الإنسان منذ البدء عن سعيه في طلب الله. نقطة الانطلاق في المسيحية تجسد الكلمة. هنا لم يعد الإنسان هو الذي وحده يطلب الله، بل هو الله يأتي بذاته يتحدث للانسان عن نفسه ويهديه سبيل البلوغ إليه”.
أما السؤال لماذا تم الأمر بهذه الطريقة، وفي هذا الوقت، فإن الجواب عنه، في نظرنا نحن المسيحيين، هو في سر الله العليم والقدير. ولا يسعنا أمام هذا السر إلا أن نعجب ونسبح الله ونمجده بفرح وسلام كما فعلت مريم وكما فعل الرعاة والمجوس. لم يأت السيد المسيح، لم يولد، ليؤسس دينا جديدا يدعو إليه الناس، بل ولد ليبشرنا ببشرى عظيمة: “إني أبشركم بفرح عظيم”، وهذه البشرى هي أننا خلصنا: “ولد لكم اليوم مخلص”، أي صرنا أبناء الله، ” وهو المسيح الرب”.
خلاص الإنسان ليس أن يتخلص من الخطيئة وما تجره عليه وحسب، بل خصوصا أن يرتقي ببشريته كلها ولو لم تكن خاطئة، ليلبس الألوهة. إن الخطيئة لم تمس العذراء. ومع ذلك فإن العذراء قد نالت هي أيضا الخلاص والفداء أي حياة الله، تلك التي منحت لنا نحن أيضا بميلاد المسيح. فإن مشروع الله، إن تدبيره، أكبر بكثير من أن يمحو خطيئة أو يغفر زلة وحسب، بل تبدو إزاءه كل خطيئة هباء لا يذكر. وهذا بين في مثل الابن الشاطر أو كما يسميه البعض أيضا مثل الأب الرحيم. فإن خطيئة الابن هي أنه بطيشه وزهوه استعجل قسمة الميراث كما استعجل آدم وحواء قطف الشجرة. إن الأب قد غفر لابنه حتى قبل أن يعود إليه. لكنه كان راغبا ومريدا خصوصا أن يعود الابن إلى البيت، إلى أحضانه، ليكون معه، ليشركه في كل ما هو له. ما عادت معصية الابن هاجس الأب بل كان الهاجس رجوعه إلى البيت الأبوي.
اجل، بالميلاد تغيرت طبيعتنا، سكن فينا الروح القدس، وصرنا أبناء لله ندعوه “أبا أيها الآب”. ولا شك أنه ما من خطيئة مهما عظمت تقدر أن تسقط عنا هذه البنوة. لكن المطلوب منا هو أن نتصرف ونسلك بمقتضى هذه البنوة. علينا أن لا نجعل من هذه البنوة، من هذه الحرية، فرصة للجسد، كما يطلب منا القديس بولس. كذلك، رسالتنا نحن المسيحيين هي بعد اليوم أن نبشر بأبوة الله للبشر وببنوتهم له، وأن نعمل على تجسيدها في العالم بكل مفاعيلها، وأن نحارب كل ما يشوهها، كل ما يقف عقبة دون تجسيدها منذ اليوم وفي كل مظاهر حياتنا ومناحيها. إن أبوة الله للبشر أجمعين تحدد لي كيف أقف منهم وأسلك معهم: إنهم جديرون باحترامي وتقديري ومحبتي وخدمتي وتضحيتي.
بالميلاد شاركنا المسيح في إنسانيتنا وشاركناه نحن في ألوهته. وقد علمنا كيف نسلك بمقتضى طبيعتنا الجديدة هذه. فلنأتم به، فرحين بنعمة الميلاد والبنوة وشاكرين عليها. وكما فعل هو، لننصر المظلومين وننتصر للحق، لنعط الفقراء ولنستقبل المنبوذين والمهمشين، لنحرر المستغلين والمقيدين، لنعمل من أجل السلام انطلاقا من عائلتنا إلى مجتمعنا إلى وطننا إلى العالم كله.أما بعد، أيها المحبوبون، فإن كان ميلاد الرب يسوع المسيح تأليها لنا، فكيف لا نترنم مع الملائكة “المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة”؟ كيف لا نعلن مع الملاك “إني أبشركم بفرح عظيم ولد لكم مخلص”؟ كيف لا نرحب مع الكون بالطفل الإلهي يسوع المسيح منشدين “المسيح ولد فمجدوه، المسيح على الأرض فارفعوه”؟
بالفرح والسلام، بالترنيم والتمجيد، أصافحكم وأعايدكم طالبا للجميع ميلادا مقدسا.