لم تكد الوفودُ العربية أن تحزم حقائبها مع انتهاء أعمال القمة التنموية والاقتصادية، حتى استعادتْ بيروت «يومياتها» المأزومة على وقع العجْزِ المستمرّ عن تشكيل الحكومة الجديدة التي يدخل مسارُ تأليفِها بعد غد شهرَه التاسع ووقوف الوضع الإقليمي أمام منعطفٍ بالغٍ الدقة مع إعلان تل أبيب «المواجهة المفتوحة» مع إيران في سورية واستعداد الولايات المتحدة من خلال مؤتمر بولندا الشهر المقبل لـ «تدويل» المواجهة التي أَطْلَقَتْها ضدّ طهران و«حزب الله».
وفيما كانت بيروت تقوم بـ «جرْدةِ» الربْحِ والخسارة لما حَصَدَتْه من القمة التنموية وسط ارتياحٍ إلى إعلان الدوحة أمس أنها ستستثمر 500 مليون دولار في السندات الدولارية للحكومة اللبنانية لدعم اقتصاد البلاد، بدا أن عملية تشكيل الحكومة دخلتْ مرحلةً جديدةً من المفاوضات على طريقة الـ déjà vu، أي مع ارتسام سباقٍ مع مهلٍ افتراضيةٍ وإطلاق لعبةِ ضغوطٍ أو هروبٍ الى الأمام في سياق «معركة الثلث المعطّل» التي باتت «القفل والمفتاح» في الملف الحكومي.
وكما كان متوقَّعاً فإن أول يوم في مرحلة ما بعد القمة ركّز على مسألتيْن متشابكتيْن: الأولى رصْد تداعيات ما واكب استضافة بيروت التظاهرة العربية وسَبَقها من توتّراتٍ كبيرة ولا سيما على صعيد العلاقة بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس البرلمان نبيه بري على خلفية اتهامه من فريق عون بمحاولة إفشال القمة و«إضعاف العهد». والثانية متابعة المسعى المتجدّد لتحريك عجلة تأليف الحكومة التي كانت توقفت عند إصرار رئيس «التيار الوطني الحر» وزير الخارجية جبران باسيل على أن يكون الوزير الذي سيمثّل النواب السنّة الستة الموالين لـ «حزب الله» جزءاً لا يتجزأ من التكتل المحسوب على عون بما يعني حصول الأخير على الثلث المعطّل، وهو ما لا يسلّم به بري علناً والحزب ضمْناً.
واذ كانت الأنظار شاخصةً في هذا الإطار على كيفية ردّ عون على بلوغ «معركة» بري، بوجه القمة حدّ التهديد بـ «6 شباط سياسية وغير سياسية»، وسط تَوقُّف أوساط سياسية عند محاولة رئيس البرلمان احتواء «التوتر العالي» الذي ساد قبل القمة عبر التلقُّف الايجابي لكلام باسيل عن قضية الإمام موسى الصدر، فإنّ «هبة ساخنة» مفاجئة أطلّتْ بـ «رأسها» على خط علاقة الرئيس عون وطائفة الموحّدين الدروز ومرجعيّتيها الدينية والسياسية على خلفية توجيه دعوةٍ إلى الشيخ نصر الدين الغريب (شيخ عقل الطائفة غير المعترف به رسمياً من الدولة) لحضور القمّة الى جانب شيخ العقل نعيم حسن، الأمر الذي اعتبرتْ مشيخة العقل أنه «يشكل انتهاكاً فاضحاً للقيم والمفاهيم الوطنية، ويمثّل مخالفة صارخة للدستور والقوانين والأنظمة، وتدخُّلاً مشبوهاً في الشؤون الخاصة بطائفة الموحدين الدروز (…)».
وقد فجّرتْ هذه المسألة سجالاً داخل الطائفة الدرزية بين داعمي الشيخ غريب وبين نواب المرجعية السياسية للطائفة اي الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، وصولاً الى تأييد الوزير مروان حماده «بيان مشيخة العقل الذي حمّل رئيس الجمهورية مسؤولية خرق الدستور (…)»، فيما ردّ «القصر» على بيان مشيخة العقل رافضاً مضمونه ومؤكداً «ان الرئاسة حريصة على احترام الدستور وصونه وتطبيق القوانين، بقدر حرصها على وحدة الطوائف اللبنانية واحترام مرجعياتها وتمثيلها في الاحتفالات والمناسبات الرسمية».
وفي موازاة ذلك، كان مسار تأليف الحكومة يشهد عملية «تدليك» جديدة حرص الرئيس المكلف سعد الحريري على مواكبتها من بدايتها ما دَفَعه الى صرْف النظر عن السفر إلى منتدى دافوس، في ظلّ دخول البلاد مرة أخرى دوامة «توقعات» وقراءات رواحتْ بين ان «حزب الله» سيضغط للإفراج عن الحكومة وتسهيل ولادتها بملاقاة مؤتمر بولندا لتكوين «مظلة أمان» داخلية، وبين تقديراتٍ أخرى استعادت تجارب سابقة (بدء سريان العقوبات الأميركية الأقسى على إيران) لتعتبر أن الحزب قادر على التكيّف مع مختلف التحديات الخارجية، وقد تكون له مصلحة بإبقاء الوضع اللبناني «معلَّقاً» او التشدد أكثر في الطريق الى زيادة الضغوط عليه وعلى طهران.
وفيما كان لافتاً امس لقاء الحريري وباسيل، فإن هذا الاجتماع حصل على وقع مناخاتٍ روّجت لمحاولة جديدة للدفْع نحو حكومة من 32 وزيراً (يضاف إليها علوي وسرياني) باعتبار أنها ستسمح بتمثيل السنّة الموالين لـ «حزب الله» دون ان يكونوا من حصة عون، وهي الصيغة التي سبق ان رفضها الرئيس المكلف بشكل قاطع لاعتبارات عدة سياسية وطائفية، وسط انطباعٍ بأن إحياء هذا الطرح معطوفاً على إيحاءاتٍ بأن الحريري أمام مرحلة حسْم خياراته ينطوي على هروب الى الأمام من «أصْل» الخلاف بين فريق عون و«حزب الله» حول الثلث المعطّل.