هذه حكومة لا تشبه سابقاتها في ظروفها وبرنامجها وأسلوبها، إنها حكومة سياسية ثلاثينية في تركيبتها وظاهرها انسجاما مع معادلة وتوازنات ما بعد الطائف، ولكنها «حكومة اقتصادية» في برنامجها وأهدافها و«عمقها». للمرة الأولى يتقدم الاقتصاد على السياسة وتنكفئ الملفات السياسية، وحتى في الجلسات النيابية التي خصصت لمناقشة البيان الوزاري، غابت المواقف السياسية وتحول النواب الى خبراء مال واقتصاد.. لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ولكنها هذه المرة معركة «سيدر» ومعركة الإصلاحات ومكافحة الفساد.. للمرة الأولى يحدث مثل هذا الالتقاء في مقاربة الأزمة الاقتصادية وتحسس خطرها الداهم إذا لم يصر الى إجراءات تهدف أولا الى وقف الانهيار ومن ثم الخروج من دائرة الخطر ومن غرفة العناية الفائقة، للانتقال من بعد الى مرحلة التعافي. وأول هذه الإجراءات هي الحد من عجز الموازنة عبر التقشف ووقف الهدر وأوله في ملف الكهرباء.. وللمرة الأولى يحصل التوافق، لا بل يتخذ القرار السياسي بشأن مكافحة الفساد وإعطاء هذه المسألة أولوية مطلقة، ويسود اعتقاد وانطباع بأن هذه أول محاولة جدية لفتح هذا الملف الشائك والمعقد، وقد ساهم انخراط حزب الله وبقوة في هذه المعركة ضد الفساد في إضفاء مزيد من الجدية وفي ترسيخ الانطباع أن مرحلة جديدة قد بدأت. فإذا كان من الصعب فتح ملف الفساد بمفعول رجعي ونبش ملفات وفضائح المراحل والسنوات الماضية وإقامة محاسبة ومساءلة فيما مضى، فإنه سيكون من الصعب جدا من الآن فصاعدا المضي في حالات وصفقات تفوح منها رائحة الفساد (سرقة وهدر المال العام)، لأن الوضع برمته بات خاضعا لرقابة مشددة: هناك أولا القرار السياسي بتفعيل أجهزة الرقابة وسن قوانين جديدة، بدءا من قانون المناقصات. هناك ثانيا قرار رفع الغطاء السياسي المتخذ من أركان الحكم (عون ـ بري ـ الحريري) ومن القوى الأساسية في الحكومة وأولها حزب الله والقوات اللبنانية. وهناك ثالثا ضغوط الإعلام والرأي العام.
ثمة توجه عام يعبر عنه رئيس الحكومة سعد الحريري بوضوح وثقة بأن هذه هي حكومة الفرصة الأخيرة للإنقاذ، وأن الوضع لا يحتمل تأخيرا وتأجيلا للقرارات، وأن الحكومة لا تحتمل مناوشات ومناكفات سياسية، الرئيس الحريري حدد من الآن على أي أساس سيتعاطى مع شركائه في الحكومة، وأنه سيقف ضد أي جهة تمارس التشويش أو الشغب السياسي، وحزب الله أيضا حدد أساس علاقته مع مكونات الحكومة مقدما للمرة الأولى الملفات الاقتصادية على «السياسية»، ومبديا الاستعداد للتعاون مع كل من يقف معه في المعركة ضد الفساد، حتى لو كان مختلفا معه في السياسة. والكل يتصرف من خلفية أن الفشل ممنوع، ويدرك خطورة الوضع، وأن ما كان يصح ويجوز في الحكومة السابقة لم يعد ينطبق على الحكومة الحالية. فلا مكان لمحاور ومعارضات سياسية، ولا مكان أيضا لصفقات جانبية.
ما حدث في الأيام الأولى لانطلاقة الحكومة، وفي الفترة الواقعة بين نيلها الثقة وأول جلسة تعقدها، ليس مؤشرا الى انطلاقة متعثرة والى مسار مقبل وليس نموذجا عما سيكون عليه الحال، ولا يبنى عليه للتشكيك بصدقية الحكومة وقدرتها على الصمود والإنتاج، وللتراجع عن أجواء التفاؤل والعودة الى مناخ القلق والانهيار. الحذر سيبقى سيد الموقف وحكومة العمل ستحاسب وتحاكم على أفعالها لا على أقوالها. ومما لا شك فيه أن طريقها مليئة بالمطبات و«الأفخاخ»، وأن ظروفها محفوفة بمخاطر إقليمية، ولكن كل ذلك لا يعني إصدار حكم مسبق ومبكر عليها استنادا الى ما حصل في اليومين الماضيين، «ولأن المكتوب يقرأ من عنوانه».
فلا قطع طرق في بيروت بالإطارات المشتعلة احتجاجا على انقطاع الكهرباء، ولا التظاهرات التي جابت شوارع بيروت هي من مقدمات انتفاضة شعبية، ولا مواقف وزير الدفاع إلياس بوصعب في مؤتمر ميونيخ والتدخل الخاطئ في شأن سوري داخلي، ولا زيارة وزير شؤون النازحين صالح الغريب الى دمشق في توقيت خاطئ ومفتعل، تشكل تهديدا مبكرا لتماسك الحكومة وتنذر بدخولها في انقسامات وتوترات سياسية.
في أول جلسة لمجلس الوزراء سيبادر وزراء «الاشتراكي» و«القوات» إلى طرح موضوعي «تصريحات بوصعب وزيارة الغريب» على الطاولة، ومن خلفية أن هناك خرقا لسياسة النأي بالنفس وتفردا في اتخاذ مواقف ومبادرات تحتاج الى قرار وتغطية مجلس الوزراء. وسيكون الرئيس الحريري متفهما لهذه الاعتراضات وموضحا ان أي موقف أو تصرف لا يكون بعلم الحكومة ورئيسها لا يعتد به ولا يعبر عن سياستها وموقفها، ولكن الحريري سيكون بالمقابل متشددا فيما سيكون عليه مسار الحكومة ونمط عملها وطريقة إدارته لها في المرحلة المقبلة، متوجها الى الخصوم والحلفاء على حد سواء بأن الوضع لا يحتمل الدخول في أي مناكفات سياسية، وداعيا الى وضع كل الملفات السياسية جانبا والنأي بالنفس عنها.
الرئيس سعد الحريري انصرف سريعا إلى وضع قطار العمل الحكومي على السكة، انطلاقا من تنفيذ مقررات ونتائج «سيدر»، ومطمئنا الى الأجواء التوافقية والثقة النيابية العالية التي شارك فيها حزب الله للمرة الأولى، والى الدعم الدولي، وهو لن يكون متساهلا إزاء أي محاولة لفرملة انطلاقة الحكومة واندفاعها، ووضع العصي في دواليبها وإغراقها في خلافات وتوترات سياسية. الحريري في عالم آخر. في «عالم سيدر»، ومن الآن فصاعدا تركيزه على إطلاق ورشة العمل الحكومي للخروج من الأزمة الاقتصادية، والاجتماع الذي عقده أمس مع المؤسسات المانحة حول تمويل مشاريع «سيدر» أهم بكثير من زيارة الوزير الغريب الى دمشق والاجتماع الذي عقده مع وزير الإدارة المحلية والتنمية السوري حسين مخلوف، وحضوره بعد أيام القمة العربية الأوروبية في شرم الشيخ أهم بكثير من حضور الوزير بو صعب مؤتمر ميونيخ وما قاله فيه.