في العام 2019، ما يزال لبنان يعيش محطات سوداء تخنقه، هو الوطن، قبل أن تخنق الحناجر والحرية والكرامة الإنسانية والحقوق البديهية. فهنا، في عصر الإعلام التقليدي والافتراضي، لا يزال القمع موجوداً، ولا تزال سياسات الترهيب حاضرة، ولا يزال الاقتصاص من فرد عبّر عن رأيه قائماً.
في تقريرها الأخير التي أصدرته بمناسبة اليوم العالمي للصحافة والتي تناولت فيه الفترة الممتدة بين أيار 2018 ونيسان 2019، خلصت مؤسسة "مهارات" إلى أنّ "المشهد اللبناني يسجل تراجعا في حرية الناشطين والمواطنين في التعبير عن آرائهم الخاصة لاسيما عبر مواقع التواصل الاجتماعي "وقد تمظهر ذلك في حالات"حول قضايا تتعلق بنقد الأشخاص العامين وأداء المؤسسات والهيئات المولجة تطبيق القانون وحماية الحقوق والحريات او ابداء آراء نقدية ساخرة منها أو من قضايا تتعلق بالأديان"، معتبرة أنّ "السلطة تتذرع في حملاتها القمعية ضد إبداء الرأي والتعبير عنه بنصوص تتعلق بالمس بهيبة المؤسسات العامة او تعكير السلام العام او اثارة النعرات الدينية أو تعريض سلامة الدولة او علاقات لبنان الخارجية للمخاطر او تحقير الموظفين العامين ونصوص اخرى تتعلق بالتجديف والاساءة الى الاديان والممارسات العبادية".
وأشار التقرير أيضاً إلى أنّ "السلطة ما زالت تعتمد نصوص الرقابة المسبقة على بعض الأعمال الفنية مثل النصوص المسرحية والأفلام السينمائية، كما تخضع المطبوعات الاجنبية للرقابة المسبقة ايضا".
وبالنسبة إلى الصحافيين، فقد ذكرت "مهارات" أنهم "تعرضوا لضغوط لسحب مقالاتهم وافشاء مصادر معلوماتهم، اضافة الى انتهاك خصوصية مراسلاتهم. ومن التحديات التي واجهها الصحافيون أيضا تعرضهم للملاحقة أمام المحكمة العسكرية وتدخل المدعي العام العسكري في عمل الصحافة وإصدار بلاغات بحث وتحر بحقهم واخضاع مكاتب عملهم للتفتيش والاقتحام واخضاعهم للتحقيق أمام الشرطة العسكرية كما الادعاء عليهم مباشرة أمام محكمة المطبوعات خلافا لأحكام القانون."
أمس، تبلغّت الإعلامية في إذاعة صوت لبنان (100.3 و100.5) نوال ليشع عبود ضرورة مثولها أمام محكمة المطبوعات الخميس المقبل بتهمة التشهير بدعوى مقدمة ضدها من الجامعة اللبنانية على خلفية حلقة تناولت فيها منذ أشهر ضمن برنامجها الصباحي "نقطة على السطر" ملف الجامعة اللبنانية والتعيينات التي تحصل فيها، في حديث لـ "لبنان24"، تلفت عبود إلى أنها "تفاجأت بعنصر أمني يطرق باب منزلها ليبلغها بالدعوى، علماً أنّه تمّ الادعاء من قبل الجامعة على الضيوف الذين شاركوا في تلك الحلقة عقب انتهائها".
وبحسب عبود، فإنه تمّ الادعاء عليها باعتبارها أساءت إلى الجامعة اللبنانية وإلى رئيسها لدى طرحها سؤال "هل صحيح أن شهادة الرئيس مزوّرة؟"، واعتُبرت أنها كانت تدفع ضيوفها، من خلال أسئلتها، إلى التهجّم على الجامعة ورئيسها ومجلسها!
غير أنّ الإعلامية المخضرمة في "صوت الحرية والكرامة" تستغرب كلّ هذا الأمر معتبرة أنه من حقها، ضمن إطار مهنتها، أن تفتح ملفات حول قضايا يشوبها لغط وأن تطرح الأسئلة بهدف الوصول إلى الحقيقة. وكشفت عبود أنها أبلغت رئيس الجامعة في لقاء جمعها به منذ أشهر، سيّما بعد أن كشف عن امتعاضه من الحلقات، أنه من حقها كصحافية أن تطرح الأسئلة وبخاصة تلك المثارة، وله أن يردّ بالإثباتات، ولم تخف عبود كذلك أنها دعت في حلقتها تلك جانب الجامعة اللبنانية إلى المشاركة في معرض حق الردّ، إلا أنّها رفضت.
واعتبرت عبود أن ثمة محاولات كثيرة لإسكات الصحافيين ومنعهم من قول الحقيقة وكشفها، "لأن الحقيقة تخيف البعض"، بيد أنها اطمأنت في الوقت عينه إلى أنّ "الدنيا ما زالت بخير في لبنان" بفضل التضامن الذي لمسته من أهل الإعلام وعدد من السياسيين على حدّ سواء، داعية كلّ من يؤمن بأن "الحرية مقدسة"، وكلّ من يريد للكلمة الحرّة أن تبقى موجودة ومصانة إلى ملاقاتها أمام محكمة المطبوعات الخميس المقبل.
في السياق، علّق المستشار القانوني لجمعية "مهارات" المحامي طوني مخايل في حديث لـ "لبنان 24" أنّ "المستغرب في قضية الإعلامية نوال ليشع عبود أنها مضيفة البرنامج وبالتالي هي من تدير الحوار، وعادة يصار إلى الادعاء على الضيوف، فالصحافي يلعب دوره ويناقش القضايا ويستمع إلى مختلف الآراء".
وشرح المحامي أنّ "نظام المطبوعات في لبنان هو نظام جزائي، وبالتالي يمكن أي كان أن يدعيّ على صحافي أو مدير مسؤول، لكن ما يهمّنا اليوم أن يكون حق هذا الصحافي مكفولاً ومصاناً، وألا يتعرّض لانتهاكات تمسّ بكرامته وبشخصه وبحقوقه.
ومن أبرز تلك الانتهاكات هي أن يتمّ استدعاء الصحافيين من قبل أجهزة أمنية وهو ما قد يعرّضهم لانتهاكات أخرى إضافية تطال خصوصياتهم ومراسلاتهم ومعلوماتهم من خلال مصادرة هواتفهم وحواسيبهم الشخصية على سبيل المثال.
واعتبر مخايل أن الإشكاليات الموجودة اليوم فيما يتعلق بحرية الصحافة وإبداء الرأي منها ما يتعلق بالنصوص القانونية ومنها ما يتعلق بالممارسات ولا سيّما القضائية.
ولفت إلى أنّ قانون المطبوعات الذي وضع في العهد العثماني جاء ليضع ضوابط تنظيمية وقيوداً في الوقت عينه لاكتشاف الحكام قدرة الصحافة على التأثير في الرأي العام، إلا أنّ قانون المطبوعات جاء مكملّاً لقانون العقوبات الذي نصّ على جرائم تتعلق بالقدح والذمّ والتشهير بشكل عام.
ويوجب قانون المطبوعات أن تحال اية دعوى تتعلق بما ينشر في اي مطبوعة ورقية او الكترونية الى محكمة المطبوعات مباشرة. واذا استدعى الامر تحقيقا يباشره قاضي التحقيق بنفسه بحضور المدعى عليه ومحاميه ويمنع التوقيف الاحتياطي ويبقى المدعى عليه طليقا ولا يمكن احتجاز حريته. هذه الضمانات أقرها قانون المطبوعات لحماية الصحافيين الذين يمارسون مهنتهم الاعلامية من خطر التوقيف والاحتجاز والخضوع لإجراءات التحقيقات الاولية ومضايقات الاجهزة الامنية وتجاوزاتها والتي تستدعي الصحافيين والناشطين هاتفيا دون اي بلاغ رسمي او اعلامهم عن سبب الاستدعاء مما يشكل انتهاكا لحقوقهم.
ويعددّ مخايل أمثلة عن أبرز الانتهاكات التي سجلّت بحق الصحافيين في لبنان ومنها محاكمتهم أمام القضاء العسكري، وادعاء القضاء العسكري عليهم أمام محكمة المطبوعات، وملاحقتهم أمام المحاكم العدلية لانتقادهم أداء موظفين في قضايا تهمّ الرأي العام، وصدور أحكام بحق صحافيين اثر ممارسة مهامهم الاستقصائية او إبداء آرائهم ومعاقبتهم بالحبس..
وتعتبر "مهارات" أن "محكمة المطبوعات ما زالت تتأرجح في أحكامها ما بين تطبيق القانون بحرفيته بما لا يضمن صون حرية التعبير وبين التوسع في الاجتهادات المستقاة من روحية الدستور والتزامات لبنان الدولية لاسيما لجهة نقل الوقائع والاستياء العام وانتقاد أداء الموظفين العامين ولو بشكل مباشر وقاس".
وبحسب قانون المطبوعات، يمكن للمدعي الشخصي ألا يحضر الى المحكمة وهو يمثل بمحاميه اما الجهة المدعى عليها فحضورها الزامي الى جانب محاميها اذا كانت عقوبة الجريمة المنسوبة إليها تزيد عن السنة، ما يعني أنّ القضاة ينظرون في هذه الحال إلى قضايا تحال إليهم كجرائم جزائية جنحية يطبقون فيها أصول المحاكمات الجزائية في ما يتعلق بالحضور واستجواب الفرقاء والإثبات والاستماع الى افادات الشهود والنظر بالوقائع والادلة والعلاقات السببية والحيثيات التي رافقت
ما نشر او قيل بواسطة وسيلة إعلامية مطبوعة او اذاعية او تلفزيونية، وعليه، تطالب "مهارات" بألا يكون حضور المدعى عليه إلزامياً بل يمثله محاميه.
وتطالب "مهارات" في هذا الإطار أن يحاكي النصّ القانوني المبادئ الاساسية لحرية التعبير ويتآلف معها، وتدعو إلى إقرار إصلاحات عديدة تهدف إلى إلغاء عقوبة الحبس نهائيا من اقتراح قانون الإعلام الجديد الذي تناقشه لجنة الإدارة والعدل اليوم، بالإضافة إلى توسيع حق نقد الشخص العام وحصر النظر في قضايا الرأي والتعبير كافة بما فيها تداول ونشر الآراء والمعلومات على وسائل التواصل الاجتماعي بصلاحية المحاكم العادية مباشرة، وأن يشمل منع التوقيف الاحتياطي كل من يعبر عن رأيه، وكف يد مخافر التحقيق الامنية بما فيها مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية، مخابرات الجيش، شعبة المعلومات والامن العام او أي جهاز أمني آخر من التدخل في هذه القضايا.
المهم أيضاً، بحسب مخايل، أن يتحلّى المسؤولون برحابة صدر وأن يتقبلوا النقد والآراء الصادرة من مختلف الأشخاص وبخاصة من الصحافيين، ففي الدول المتحضرة لا يدعي أي مسؤول مهما علا شأنه على شخص تناوله ولو بقسوة، "عندما تصدم الأفكار وتسيء، تكون حرية التعبير ثمينة للغاية، وإذا كانت الحرية تعني أي شيء على الإطلاق، فهي تعني الحق في إخبار الناس بما لا يريدون سماعه"!