أخبار عاجلة

ما لا تعرفونه عن 'بنات الهوى'...

ما لا تعرفونه عن 'بنات الهوى'...
ما لا تعرفونه عن 'بنات الهوى'...
كانت المرة الأولى التي ألتقي ببائعة هوى. ربما لا تزال. في الواقع، لم أسألها لأنني خشيت من أي رد فعل غير محبب على سؤالي، لكني أعترف بأنه كان لدي فضول لمعرفة ذلك. لكن لا يهم. ذلك أنه ليس سوى تفصيل عرضي في قصة لقائي مع بائعات الهوى، رغم أنه يبقى جوهرياً في حياة كل واحدة منهن.

حدث ذلك قبل مدة قصيرة، حين رُتب موعد لقائي بهن فجأة عبر إحدى الجمعيات، التي تعنى بمساعدة النساء ضحايا "البغاء"، بعدما التزمت زميلتي في أحد المشاريع، التي نعمل عليها سوياً، بعمل جديد، فأحالت إليّ مهمة مقابلتهن لغايات بحثية، وأصبحت متحمسة جداً للقائهن في ما بعد. 


مرت ثلاثة أيام قبل اللقاء، جالت في مخيلتي صور بائعات الهوى كما تظهر في الأفلام والأخبار. وطوال تلك الأيام كنت أروض نفسي على كيفية التعامل معهن. حسناً، لا بد من أن أنتقي كلماتي، كي لا يشعرن بالتمييز ضدهن، وإن كان من غير قصد مني. لا أريد إخجالهن أو التسبب لهن بضيق أو أذى، بل أريد أن أكون خفيفة الظل معهن ليس أكثر، وأن تمر المقابلة معهن على خير.

توقعت في ذاك الصباح لقاء فتيات ليل شبه عاريات، يرتدين تنورة قصيرة وكولون "شبك" وكعبا عالياً، وبلوزة مفتوحة الصدر، مع كثير من ألوان الزينة ومساحيق التجميل والحمرة الفاقعة. حتى أنني كنت أخشى عند لقائهن من الضحك، الذي قد ينتابني حين أتورط في مواقف أرتبك فيها.

صباح يوم اللقاء، استيقظت باكراً وسارعت إلى تجهيز نفسي. كررت مراراً الأسئلة التي وضعتها في ساعة متأخرة من الليل، خوفاً من حصول أي خطأ خلال الحديث. وصلت إلى مركز الجمعية قبل موعدنا بثلاث دقائق. انتظرتهن في غرفة صغيرة، تحتوي مكتباً وطاولة اجتماعات مستديرة تحيط بجوانبها أربعة مقاعد. لم أعرف عن هوية السيدة التي سألتقيها شيئاً، مرت خمس دقائق، قبل أن تدخل الغرفة امرأة بمظهر مقبول جداً لا تشبه تلك التي رسمتها في مخيلتي، ترتدي جينزاً أزرق وجاكيت زيتية اللون، تحمل حقيبة يد، شعرها مرفوع، ووجهها يكاد يخلو من أي تبرج، أسميتها "حالة رقم 1".

بلغة متلعثمة وخجولة عرفتها بنفسي، وسألتها إن كانت تريد الجلوس على المقعد قبالتي. أصغيت إلى حديثها بكثير من التمعن، وركزت على أبسط تفاصيل روايتها، عن صديقاتها اللواتي يعملن في الجنس، قصصهن، هفواتهن، انكساراتهن، خيباتهن، هواجسهن، الانتهاكات التي يتعرضن لها، التمييز والوصمة تجاههن. لم تخبرني أشياءً كثيرة عن نفسها، لكنها أشارت إلى أحد التقارير المصورة التي سبق لها أن صورتها وروت فيها قصتها من دون أن تكشف هويتها، في حال لدي الرغبة بمعرفة تفاصيل قصتها. عرفت اسمها لاحقاً حين قاطعتنا المسؤولة في المركز، ودخلت لأخذ أحد الملفات من الغرفة التي نجلس فيها، الذي قصدت ألا أتذكره لاحقاً.

التقيت الحالات الأخرى، الثانية والثالثة. كان التواصل بيننا أكثر صعوبة، لم أعرف عنهما الكثير أيضاً. أصرت الحالة الثانية، كما دونت اسمها على دفتري، ألا أذكر إسمها الذي لا أعرفه أصلاً. كانت ترتدي ثياباً أكثر فتوة، رغم عمرها الذي يزيد عن الأربعين. تمنت خلال حديثنا لو أن الصحافيين يطالبون بحقوقهن ويتعاطون معهن كإنسان ليس أكثر. أخبرتني أن لديها طفلا لا تعرف مكانه، وأنها تشتاق إليه.

الحالة الثالثة، لم يكن وقع رؤيتها عليّ أقل من اللواتي سبقنها، إلا بفارق وحيد انطبع في ذاكرتي. امرأة في بداية الخمسينيات، شعرها يغزوه الشيب، كانت قليلة الكلام وحذرة بعض الشيء أو ربما مرتبكة قليلاً، رغم أن لقائي بها جاء بطلب من مسؤولة الجمعية، لأنها هي من أرادت ذلك، لكنها على عكس ما توقعت لم تتفوه سوى بالقليل.

هكذا، أنهيت زيارتي إلى المركز. شعرت بحزن شديد وفرح في آن. كم من المشاعر المختلطة. إنهن خارجات عن المألوف والمقبول في مجتمعنا، لكنهن يشبهن أي سيدة أخرى، فكيف لمن يتعرف إليهن أن يحتقرهن؟!

طوال الوقت أفكر فيهن. حسناً، المسألة أعمق مما نتخيل بكثير. هل فكرتم، لوهلة، أنهن يقرأن الكتب مثلنا، لبقات حين يتحدثن، مثقفات في طرح مواضيع تهمهن؟ أو ربما هربن من ظروف أجبرتهن على أن يكن بائعات هوى ولا يمكن أن نفهمها نحن، لأننا لم نعش ظروفاً مماثلة. مر الوقت وأنا أسأل ما الذي دفعهن إلى امتهان بيع أجسداهن؟ لا شك أنهن يتعرضن للشتم والإهانات ولكثير من الذل والنبذ بسبب عملهن.

في اليوم التالي، مررت بـ "زيتونة باي"، حيث اعتدت التقاط أنفاسي بعد مسيرة مشي طويل. شاهدت شابة، ربما لم تتعد عمر العشرين، ترتدي ثياباً سوداء وقبعة وحذاء رياضياً، وتضع القليل من مساحيق التجميل على وجهها. بدت علامات الارتباك واضحة عليها. كانت تنقل نظراتها بخفة بين المارة، لاسيما الشبان منهم. انتبهت إلى حديثها مع أحدهم، بعدها مع شابين عمرهما أقل من عشرين.

لم تمض سوى لحظات حتى تركتهم وذهبت راكضة إلى الجهة المقابلة. الشابان اللذان مررت بقربهما سألاني إن كنت أعرفها، فنفيت ذلك. فحدثاني عن عرضها الذي قدمته لهما، وهو مرافقتهما إلى أحد المطاعم، محاولة اقناعهما بمكان جميل ومميز، لكنهما لم يتجاوبا معها. أخبرني أحدهما بأنها "كانت غريبة الأطوار، ربما هي فتاة ليل، لقد أخافني عدم اتزانها". أما أنا، فابتسمت بعدما استعدت في رأسي صور النساء اللواتي قابلتهن في المركز، وقلت أثناء مغادرتي "لا داعي للخوف، ربما كانت تريد مرافقتكما إلى العشاء ليس أكثر".

(حنان حمدان - لبنان 24)

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى