أخبار عاجلة

...كان بطريركًا

...كان بطريركًا
...كان بطريركًا
لو أسعفته اللحظات الأخيرة، قبل أن يسلم الروح بين يدي من كان له خادمًا في حياته، كاهنًا ومطرانًا وبطريركًا، وطُلب منه أن يقول كلمة الوداع، لكان أكتفى بالقول بما كان يردّده دائمًا: "بئس هذا الزمن"!
 
كلمات قليلة، وهو الذي لم يكن  كثير الكلام،  إلاّ متى كان للكلمة فعلها وموقعها، كافية للتعبير عن واقع مرير آلمه كثيرًا، وترك في نفسه جرحًا حمله معه حتى الرمق الأخير، مع إيمانه العميق بأن أبواب الجحيم لن تقوى على بلد مرّ بتجارب مرّة وصعبة في تاريخه القديم والحديث، ولا يزال يقاوم، على رغم ما يواجهه من صعوبات.
 
وانت تغادرنا بالجسد فقط، لأنك باقٍ معنا دائمًا بالروح، وما لم يُتاح لك أن تفعله على الأرض، وقد سعيت وجاهدت بكل قواك، ستفعله حيث تستريح نفسك بسلام برفقة الأبرار والصدّيقين.
 
يكفينا فخرًا أننا عشنا ردحًا من الزمن كنت فيه بطريركًا على كرسي إنطاكية، ويكفينا فخرًا أنك حافظت على إرث يوحنا مارون والبطاركة القديسين الأبطال، وكنت واحدًا منهم، فكنت البطريرك البطريرك، وأستحقيت أن تُعطى مجد لبنان، فأعطيته من ذاتك الكثير، وذهبت إلى حيث يجب أن تذهب، فكان لوقع قدميك أثر في كل مكان، في الجبل عندما أدملت جرحًا عميقًا بين أهل العيش الواحد، فكانت بينهم مصالحة ومصارحة تاريخية، أسسّت لعلاقة مستقبلية على صخرة التسامح والغفران.
 
وفي الساحات السياسية، يوم كان لمعنى السيادة معنىً مغايرًا في قواميس البعض، قلت كلمتك ولم تمشِ، فكانت اللبنة الأولى في إستعادة الإستقلال الثاني، وكرّست المفهوم الحقيقي لكيان لبنان الكبير، فأكملت بذلك  مسيرة بطريرك لبنان الكبير المثلث الرحمات البطريرك الياس الحويك.
 
ويوم وقفت حزينًا أمام تقاتل أبناء الصف الواحد، وكنت على إستعداد لأن تفدي الجميع، عندما تعاليت عن الجراح وصغائر الصغار، وكدت تدخل في سجل الشهداء، على غرار البطريرك جبرايل حجولا، الذي أستشهد وهو يدافع عن الحق، الذي وحده يحرّر.
 
تغادرنا بعد جهاد طويل، وبعدما أعطيت ما لله لله وما لقيصر لقيصر، ومشيت درب الجلجلة حاملًا صليب لبنان على كتفيك، فكنت البطريرك البطريرك، الذي لم تسكرك كثرة البهرجات و"كذب" المداحين، ولم تضعف أمام المغريات، وهي كثيرة، ولم تتنازل عما كنت مقتنعًا بأنه هو الصواب، ولم تساوم ولم تدخل في صفقات أهل السياسة، على رغم كل الضغوطات، الخارجي منها والداخلي، وإن صودف أن فعلت فإقتناعًا منك بأن ما كان معروضًا كان "افضل الممكن".
 
وأنت تصارع المرض حتى الرمق الأخير كانت صلوات اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، ترافقك في لحظاتك الأخيرة، وأنت لم تنسَ يومًا أن تذكر في صلواتك جميع الذين هم في حاجة إلى صلاة.
 
اليوم، وبعدما تحرّرت من قشور الأرض ومن المجد الباطل، تدخل إلى المكان الذي لم تره عين ولم تسمع به إذن ولم يخطر على بال بشر، وانت الذي قلت "أنا تراب. منه جبلت وإليه أعود وقد جاهدت كل حياتي لأستحق لقب الحقيرالذي حمله أسلافنا الذين عاشوا بتواضع وكرامة وكرسوا ذاتهم للخدمة".
 
"ريش ريشونه"(*) أرقد بسلام في جوار شربل ورفقا والحرديني وأبونا يعقوب والأخ أسطفان.
 
(*) ريش ريشونه باللغة السريانية تعني رئيس الرؤساء.
 

 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

التالى "الوادي الأخضر": من ذروة المجد إلى شفا الانهيار؟