أخبار عاجلة

من جبل المصالحة.. وداعا لصانع السلام والإستقلال ونحن شهود على ذلك

من جبل المصالحة.. وداعا لصانع السلام والإستقلال ونحن شهود على ذلك
من جبل المصالحة.. وداعا لصانع السلام والإستقلال ونحن شهود على ذلك
في الرابع من آب عام 2001، حملتُ الأرُز والورود وتوجهت إلى ساحة بلدتي الشوفية كي استقبل الزائر الكبير، شأني شأن أبناء الجبل الذين افترشوا ساحات وطرقات البلدات التي سيمرّ عبرها موكب البطريرك مار نصر الله بطرس صفير في طريقه إلى المختارة، ملبيًّا دعوة رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط ليختما جرحًا كبيرًا، ومجتازًا ما يقارب المئتي كيلومتر من أرز الرب إلى أرز الشوف، وما بينهما من حكاية وطن كوّن الدروز والمسيحيون نواته، قبل أن يصبح لبنان الكبير.  

 شاهدتُ شيوخًا ونساءً وأطفالاً، شبانًا وشابات، وقدّ تجمعوا في الساحات وعلى جانبي الطرقات، وبعفوية أهل الجبل ومحبتهم وعاداتهم في حسن استقبال الضيف، راحوا يوقفون موكب صاحب الغبطة في البلدات التي مرّ بها وصولًا إلى المختارة، يرحبون ويتباركون، مشاركين في عرس وطني إلى جانب القادم إلى الشوف من بكركي وفي جعبته رسالة محبة وتلاق ومسامحة.

في المختارة كل شيء جاهز للحظة التاريخية، حشود سياسية وشعبية تشارك جنبلاط  تلك المحطة من عمر دار المختارة، إضافةً إلى وفد كبير من المشايخ. قائدًا سفينة الموارنة إلى التلاقي وصل صاحب الغبطة بروحه الرسولية ومعه جمع من المطارنة ، فكان الملقى بين السلطتين الروحية والزمنية ، وتكلّلَ بمصالحةٍ تاريخيةٍ كتبت للجبل وللبنان عهدًا جديدًا يليق بنهج بناء الاوطان، وشكّلت لاحقًا فاتحةً للمسار السيادي.

محظوظ من قصد قصر المختارة في الصباح الباكر من ذاك اليوم قبل أن يصبح الوصول إليه استحالة، ليشهد على ولادة تلك المَشهدية المفصلية، التي على ما يبدو لم تحل بردًا وسلامًا على من خطّطوا وعملوا على خلق الفتنة بين الدروز والمسيحيين، فاغتالوا المعلم كمال جنبلاط وراحوا يتفرجون على تسعير الحرب الأهلية مبهورين بنجاحاتهم الإجرامية، فأي تلاقٍ لن يتماشى ومراميهم .

في ذاك اليوم وعلى رغم أنّني لم أعش الحرب فرحت بالسلام. لم أكن مراسلة أو صحافية أو حتّى قارئة صحيفة، كنت قد تخرجت للتو من كلية الإعلام واستعد للبحث عن وظيفة، وكان إلمامي بدور سيد بكركي متواضعًا، باستثناء ما كوّنته من خلال بعض تصريحاته، التي تنقلها نشرات الأخبار وتصل إلى  مسمعي أثناء متابعة العائلة للنشرة الإخبارية المسائية. كان خالي من المتابعين لكلّ عظاته وخطاباته أيام الآحاد، وكان يقول لي "إذا أردت البدء بمتابعة الأخبار السياسية عليك بالإستماع إلى البطريرك صفير". استغربت ذلك، لاسيما وأنّ سيد بكركي ليس في موقع سياسي،  فكيف سيكون كلامه مؤثرًا في المشهد السياسي وهو خارجه ؟

كان الخال يجيب موضحًا "لطالما كان لبكركي الدور الفاعل في تاريخ لبنان، فهذه المرجعية تمثل الثقل الماروني، ومواقفها يحسب لها ألف حساب، لا سيّما وأنّها تعكس مواقف الكنيسة المارونية وتتسم بالجرأة المحررة من التحالفات التي قد تفرضها الحياة السياسية". وراح الخال يستطرد ويتوسّع في الشرح، مستشهدًا بموقف البطاركة الموارنة  الذي دعا إلى خروج الجيش السوري للبنان، وهو الأول من نوعه والأكثر جرأة، والمعروف ببيان المطارنة الشهير.

مرّ زمن ليس بقليل قبل أن أُدركَ رمزية هذا الكلام ومعناه، ولعّل مشهدية الرابع عشر من آذار 2005، مثلت المناسبة التي أيقنتُ من خلالها أنّ بكركي كانت السبّاقة في فتح الطريق للاستقلال الثاني، لاقتها شخصيات سياسية كلّ على طريقته، جمعهم زلزال جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فتوحدّوا تحت شعار واحد، انسحاب الجيش السوري وتشكيل محكمة دولية، على رغم عمليات الإجرام التي حاولت إرهابهم، وحصدت شخصيات منهم، أكملوا ما سمّوه درب الجلجلة وصنعوا "ثورة الأرز"، التي تمكنت بمشهديتها الوطنية الشعبية والسياسية من تحقيق ما خلناه معجزة، أي خروج الجيش السوري من لبنان . بين ولادة مصالحة الجبل ومشهدية ساحة الشهدء في 14 آذار حوالي أربع سنوات، لسيد بكركي وسيد المختارة دور محوري في كلّ منهما، عنوانه رفض الوصاية.

صاحب الغبطة بطريرك الجرأة والوطنية والنضال والسلام في وداعك نقول: نحن أبناء الجبل مثلكم، قلنا ما قلناه في آب عام 2001، وكلنا قناعة وإيمان بالتعددية والتلاقي، وفعلنا ما فعلناه في ذاك اليوم ، وكلنا توقا لطي صفحات الماضي، وعن عهدنا المشترك ومشهديتنا الواحدة التي صنعناه وأياكم  لن نتخلى، مهما عظمت خطابات الحقد والتفرقة .

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى