تعاطف الحريري مع الشارع وارتياحه اليه، لم يلغيا الحمل الثقيل الملقى على كتفيه، فهو لم يكن يحسد على ساعات مثقلة بالانتظار عايشها مع احتكامه الى الوحدة وتجنّبه مقابلة الناس. ويصوّب المراقبون على مشهدية تعاطف المتظاهرين مع الحريري التي اتسعت حلقتها في البيئة السنية بعد صورة تكوّنت أمامهم عن رفض إسقاط رئيس الجمهورية في الشارع، وهذا ما خلق نوعاً من البلبلة وشدّ العصب الطائفي، رغم أنه من الطبيعي ديموقراطياً اعتبار رئيس الحكومة عنصراً متغيّراً مقابل اعتبار رئيس الجمهورية عنصراً ثابتاً حتى انتهاء ولايته. وترجمت هذه المشهدية التي تكوّنت في الأيام الأخيرة فعلياً بعد استقالة الحريري، اذ صدح صوت الهتافات المؤيدة للزعيم السني، وهو ما دفع الى طرح علامات استفهام حول ما اذا كان زمن الاصطفاف العمودي (حقبة الثامن والرابع عشر من آذار) يتحضّر للعودة.
التصويب اليوم على من يمثّل الطائفة السنية. الأجواء التي كانت تكوّنت قبل ساعات من اعلان الحريري وضع استقالته بتصرّف رئيس الجمهورية، كانت تشير الى مسارين: تؤيّد فئة كبيرة من كوادر "تيار المستقبل" اختيار مسار القناعة القديمة – الجديدة التي يتبنّاها هؤلاء الكوادر والسير في اتجاه الجوّ السياسي السنّي الداعي الى ضرورة الاستقالة وترك الميدان لـ"حزب الله" كي يتحمّل مسؤولايته، فلماذا وضع الحريري في "بوز المدفع"؟. وكانت الخشية أن تؤدي الاستقالة الى اضعاف الحريري سياسياً اذا لم يعد رئيساً للحكومة الجديدة، وهي معادلة يخشاها الحريري نفسه.
في غضون ذلك، كان "حزب الله" يحضّ الرئاستين الأولى والثالثة على الصمود، وهذا ما شكّل حذراً لدى قياديين في "تيار المستقبل"، الذين منهم من اعتبر أنها لعبة خطرة. واعتبرت أوساط في "التيار الأزرق" أن "الرهان على إنهاك الشارع هو لعبة خطرة واقعياً، رغم أن التعب بدأ يظهر على صفوف المتظاهرين، إلا أن خيبة هؤلاء من دون تحقيق أهدافهم ستؤدي الى تجذّر حقد رهيب في نفوسهم ونشوء حركات متطرّفة مجتمعياً وسياسياً، ما يعني أن الحلّ يكمن في استقالة الحكومة".
هل استبعاد ورقة جوكر الحريري في مرحلة مقبلة مرتبط باستبعاد ورقة وزير الخارجية جبران باسيل، وهي نظرية روّجت لها تحليلات وقراءات عدّة في الأيام الأخيرة؟ في رأي مصادر في "التيار الوطني الحرّ"، لا يمكن التفكير انطلاقاً من المقايضات، وهي مسألة غير واردة. ولا يمكن معالجة أزمة سياسية بحكومة غير سياسية، علماً أن الحكومة مليئة بوجوه من خلفية تكنوقراط. وترى المصادر نفسها أن قسما من المتظاهرين يفترش الساحات لأهداف سياسية أكثر منها معيشية، والمطلوب رؤية لها علاقة بالسياسات المالية واسترداد الاموال الموهوبة والمنهوبة وتوفير فرص عمل في ظلّ أزمة بطالة حادة لا تحلّ بمزايدات كلامية، بدلاً من استبدال أشخاص.
وبذلك، تستقرّ بوصلة المشهدية السياسية على احتضان جماهيري للحريري وقراره الاستقالة، فيما تبقى علامات الاستفهام مرسومة حول المستقبل الحكومي.