الطريق الى الأقصر من الغردقة يستغرق نحو أربع ساعات. الدقائق تتثاقل، على رغم محاولة "أسامة" و"ميلاد" سائقا الحافلة السياحية، التخفيف على السواح اللبنانيين، وايهامهم بأنّ المسافة باتت تقترب.
ركاب الحافلة حائرون ... يفكرون ...يتسألون: هل أخطأنا في اختيار الأقصر وجهتنا؟ ألم يكن الأجدر بنا البقاء في الغردقة، والاستمتاع بشمسها وسحر بحرها الأحمر رغم نسمات الهواء البارد نسبياً في شهر نيسان؟ هل تستحق رحلة الاقصر كلّ هذا العناء؟
إحدى السائحات بدت أقل صبراً من غيرها، وطلبت الى أسامة مرات عدة أن يحدد لها بالضبط المسافة المتبقية للوصول حسب التوقيت السويسري وليس المصري؟
يضحك أسامة ويقول: "الساعة بالمصري يعني ساعتين عند السويسريين".
عناء سرعان ما بدأ يتلاشى حين وطئت أقدامنا مدينة الاقصر، حيث استقبلنا المرشد السياحي عزت، الذي يسهب في الحديث بشغف عن الاقصر التي اعتادت ان تجذب الشريحة الأكبر من السياحة الثقافية الوافدة الى مصر.
تُعرف الاقصر بأسماء عدة منها مدينة المئة باب، أو مدينة الشمس، أو طيبة، كما أطلق عليها العرب الأقصر، جمع قصر، مع بداية الفتح الإسلامي لمصر، وهي تقع على ضفاف نهر النيل، والذي يقسّمها إلى شطرين البر الشرقي والبر الغربي.
يقول عزت: " لقد ظلّت الأقصر ( طيبة)، عاصمة لمصر حتى بداية الأسرة السادسة الفرعونية، حين انتقلت العاصمة الى منف في الشمال، وجولتنا ستشمل زيارة معبد الكرنك، ورحلة قصيرة في نهر النيل، ومن ثمّ ووادي الملوك ومعبد الملكة حتشبسوت".
البداية كانت من معبد الكرنك الذي يُعتبر بمثابة سجل تاريخى حافل لتاريخ وحضارة مصر، ابتداء من الدولة الوسطى حتى حكم البطالمة ، وقد
سُمي بذلك نسبة لقرية الكرنك التي يوجد بها، وكلمة الكرنك تعني القرية المُحصنة. يقع معبد الكرنك الذي يعدّ من اضخم المعابد التاريخية في العالم على البر الشرقي لنهر النيل في مدينة الأقصر. وقد بُني هذا المعبد لعبادة الإله الفرعوني الشهير آمون رع وزوجته المعبودة موت وابنهما الإله خونس، حيث يوجد لكلّ منهم معبد خاص.
معظم الملوك من الدولة الحديثة شاركوا في بناء معبد الكرنك، لذلك لا يعدّ معبد واحدًا بل مجموعة من المعابد الضخمة، التي ُبنيت علي مدار مئات السنين، واستمر بناء وتشييد هذه الاثار لمدة 2000 عام، والبداية كانت مع الاسرة 11 في عام 2134 قبل الميلاد.
للانتقال من البر الشرقي، حيث اتخّذ المصريون القدماء مكان اقامتهم كون الشمس تشرق من الشرق، إلى مقابرهم في البر الغربي، حيث غروب الشمس، لا بدّ من جولة في نهر النيل، حيث نجح القدماء المصريين في إقامة أعظم حضارة في التاريخ على ضفتي النهر.
فعلى صفحة هذا النهر العظيم، حيث تنقّل الفراعنة داخل البلاد، لا تزال المراكب تفرد أشرعتها فوق الأمواج الناعمة، حاملةً معها النسيم العليل للسواح، الذين تراقصت قلوبهم فرحاً على وقع موسيقى اختلط معها عبق الحضارة بسحر النيل.
بعد الغداء، انتقل السواح الى وادي الملوك، الذي كان يُعدّ مكاناً لتخليد ملوك الفراعنة قبل الانتقال إلى الحياة الأخرى للشكل الهرمي للجبل، الذي يبلغ ارتفاعه قرابة 300 متر.
يعود تاريخ وادي الملوك بصفته مقابر لدفن الفراعنة إلى عام 1550 قبل الميلاد، وقد وقع الاختيار على الموقع لقربه من المعابد الملكية، ويرجّح أن أول حاكم فرعوني دفن فيها هو "تحتمس الأول"، وآخر من دفن فيها هو "رمسيس الحادي عشر" آخر ملوك الأسرة العشرين.
ولكي تصل إلى موقع الزيارات الذي يضمّ 64 مقبرة منحوتة في الصخور الصلبة منها، عليك أن تستقل قطاراً طوافاً، ("طَفْطَفْ" حسب ما يطلق عليه في مصر)، سوف يأخذك عبر مسافة 15 كيلومتراً تقريباً من كوبري الأقصر للوادي، الذي يقع في منطقة قاحلة بين تلال ضخمة في الصحراء من الحجر الجيري، تكسوها آثار قنوات جافة يعود عمرها لآلاف السنين، جميعها نقش على جدرانها أروع ما قد تراه عين من جداريات.
روعة النقوش والرسوم الملونة على الجدران هي أكبر دليل على عظمة المصريين القدامى، الذين برعوا في النقش على جدران صخرية، جداريات لا تزال ألوانها محتفظة برونقها على رغم آلاف السنين. المحطة الأخيرة، كانت في الدير البحري أو معبد الملكة حتشبسوت، الملكة الفرعونية الوحيدة التي حكمت مصر، والتي كانت الابنة الكبرى لفرعون مصر الملك تحتمس الاول من الأسرة الثامنة عشر. ويُعدّ معبد الدير البحري أجمل معبد جنائزي بُني لملكة في التاريخ. وجاء بناؤه بالحجر الجيري الأبيض الملكي المجلوب من طرة، وعلى هيئة صالات ثلاث تعلو الواحدة الأخرى، لكي ترتقيها روح الملكة الحبيبة، وتصعد بها إلى السماء لتخلد مع النجوم.
تزوجت حتشبسوت من الملك تحتمس الثاني الذي كان أخوها، حيث كان قدماء الفراعنة يتزوجوا من اشقاءهم للحفاظ على نسل الملك. وقد حكمت مصر منذ عام 1503 ق.م وحتى 1482 ق.م.، وهي أول ملكة فرعونية حكمت مصر في حين أنّه كان من المفترض أن يحكم ابن زوجها (تحتمس الثالث)، لكنّها أخبرت الكهنة بأنّها حلمت بأن الآلهة ترشحها للحكم، فقرر الكهنة جعلها الحاكمة. وعلى رغم ذلك لم يتقبّلها الشعب لأنّها امرأة، فحاولت أن تمثّل نفسها كرجل في التماثيل، إذ كان الملك طبقاً للعرف مُمثلاً للإله حورس الحاكم على الأرض، لذلك كانت دائماً تلبس وتتزيّن بملابس الرجال.
لقد حكمت حتشبسوت مصر لمدة 20 عاما ً، وفي عصرها ازدهرت البلاد اقتصاديا ًوسياسياً، وصارت مصر الدولة الأولى تحضّراً وغنى. وتميّز عهدها بقوة الجيش والبناء والرحلات التي قامت بها. وحاولت أن تثبت كفاءتها كحاكمة، أما ابن زوجها فكان ليس له دور كبير في فترة حكمها، مما سبّب حقداً لدى تحتمس الثالث. وبعد أن ماتت الملكة "حتشبسوت" حاول تحتمس الثالث أن يدمّر كل تمثال لزوجة أبيه ويشوّهه، ويمسح اسمها ويخفي ملامح حكمها.
بعد هذه الجولة العابرة للعصور، يعود السواح اللبنانيون أدراجهم الى الغردقة، ولسان حالهم، إنّها رحلة طويلة، لكنّها تستحق قطع كل هذه المسافة، بفعل امتزاج تاريخ عظمة الفراعنة بخفة دم الصعايدة.
(مي الصايغ)