خبر

أوروبا تتنكر لتاريخها

منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، تحوّلت الكثير من المعالم التذكارية والنصب السوفياتية إلى مادة للجدل المبالغ به. جدل مدفوع ومفتعل من أجل إثارة النزعات القومية في أكثر من دولة أوروبية، ما أعطى صورة مضطربة حول نهج الدول الأوروبية المدفوعة من الولايات المتحدة، الساعي -في ما يبدو منذ سنوات عديدة- إلى مراجعة نتائج الحرب العالمية الثانية، وبالتالي إلى التنكر للتاريخ والوقائع.

فبعد أن كانت هذه المعالم التذكارية والرموز محطّ احترام وقبول وعناية منذ الحرب العالمية الثانية وعلى مدى 3 أجيال (75 سنة وأكثر)، ارتفعت الأصوات داخل أوروبا التي أصبحت تنادي بإزالتها من أجل الانتقام من روسيا.

نُصب كثيرة موجودة في دول مثل أوكرانيا وألمانيا وأكثر من دولة من دول البلطيق كانت مادة لهذا الجدل، ومحاولة فاقعة من أجل حرف التاريخ، وتشويه الحقائق حول مساهمات روسيا (الاتحاد السوفياتي سابقا) في مواجهة النازية.

وفي أوكرانيا، قررت سلطات مدينة ترنوبل الغربية بعيد انطلاق الحرب، تفكيك نصب للكاتب الروسي الشهير ألكسندر بوشكين. كما فكّكت تمثالا نصفيا لبوشكين نفسه في مدينة موكاتشيفو، غربي أوكرانيا.

والأمر لم يقتصر على أوكرانيا فحسب، وإنّما تعدّاها إلى دول أوروبية أخرى موالية للولايات المتحدة وحلف "الناتو". وفي لاتفيا، أبدت السلطات رغبتها بتفكيك 5 نصب تذكارية سوفياتية في مدينة "أوغريه"، وهو ما رفضته موسكو وأرسلت بمذكرة إلى وزارة الخارجية تعترض فيها على هذه الخطوة، وتدعوها إلى "الالتزام بالمعاهدات القانونية الدولية الثنائية"، لأنّ خطوات من هذا النوع تُعدّ "استفزازية وغير قانونية" وتساهم في "انقسام المجتمع اللاتفي وركود الحوار بين البلدين".

الأمر نفسه حصل في إستونيا، التي عرفت توترات من هذا النوع قبل سنوات طويلة، وتحديدا في العام 2007 الذي شهد في حينه، توترات نتيجة اعتراضات على نقل نصب تذكاري للحرب السوفياتية في العاصمة تالين. فبادرت السلطات في إستونيا إلى اتهام موسكو بتأجيج الاضطرابات على الرغم من عدم احترامها للحضور الروسي الثقافي في إستونيا، والوجود الروسي في البلاد أيضا من خلال الجالية الناطقة باللغة الروسية.

أمّا في ألمانيا، فارتفعت أصوات مشابهة، لإزالة 4 نُصب تذكارية تركها الجيش الأحمر في برلين، كبادرة تهدف إلى إحياء ذكرى جنود الاتحاد السوفياتي الذين قتلوا هناك بمواجهة النازية. هذه النصب ليست آثارا فحسب، وإنما مواقع تذكارية تضمّ مقابر لهؤلاء العسكريين.

ومع بدايات الحرب في أوكرانيا، لفّ مؤيدون لأوكرانيا وللنازيين الجدد بالأعلام الأوكرانية، نصب "برلين تيرغارتن" المؤلف من دبابتين من طراز "تي-34" (T-34) ومدفعين استخدمت في معركة برلين، كما طالبت النائبة في برلمان العاصمة الألمانية بإزالتها كرّد فعل على الحرب.

وقالت النائبة المنتمية إلى حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي في حينه "لم تعد الدبابة في تيرغارتن ترمز إلى تحرير ألمانيا من الفاشية النازية، بل ترمز إلى الحرب العدوانية على حدودنا الإقليمية وتستهين بحياة الإنسان".

نصب آخر للحرب السوفياتية في حديقة "تريبتو" (Treptower)، وهو أكبر نصب تذكاري في ألمانيا للجنود السوفيات يحوي جثث 7 آلاف جندي من الجمهوريات السوفياتية السابقة، كان أيضا من بين النصب المستهدفة، حيث لطخه مجهولون بشعارات معادية لروسيا، مستخدمين الطلاء الأحمر وكاتبين على قاعدته رمز"Z" ومصطلحات مثل "قتلة" و "أوركس"، وهي شخصية خرافية متوحشة تسفك الدماء.

وكذلك أزال موالون متشددون لأوكرانيا الأعلام الروسية عن نصب "جندي الجيش الأحمر" القابع قرب متحف التاريخ العسكري التابع للجيش الألماني. حتى 24 فبراير/شباط الماضي، وكانت الأعلام الأوكرانية والروسية والبيلاروسية والألمانية معلقة وترفرف أمام مبنى المتحف، والآن يعلقون هناك علم أوكرانيا فقط.

ومن الناحية القانونية، تقر برلين أنها ملزمة بالحفاظ على هذه الرموز كجزء من معاهدة 1990 بين "الألمانيتين" (الشرقية والغربية) والقوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفياتي سابقا)، لكن الممارسات على الأرض تشير إلى أنّ جميع من كانوا شركاء "ألمانيا النازية" في ألمانيا وفي دول البلطيق وفي أوكرانيا وغيرها، باتوا "أبطالا وطنيين"، بشكل يثير الدهشة والاستغراب.. وكأن الدول الغربية قامت فعلا بإعادة تأهيل هؤلاء المتشددين ودمجهم بجرائمهم في سياسة "الدولة القومية" الأوروبية.

بل وكأنّ الجهود الأوروبية كلها باتت نتصب على التخلّص من كل ما تعتبره أوروبا "إرثا سوفياتيا" أو روسيا، فإمّا تدعم هؤلاء المخربين، وقد بدا ذلك واضحا في بعض الحالات لناحية التضامن مع أوكرانيا ودعمها لوجستيا ومالياً وعسكريا، بشكل مطلق ومن دون أي حسابات أو اعتبارات.

أو في أضعف الإيمان تتخذ مكان الجمهور، فتجلس وتتفرّج على ما يفعلون من دون أن تتدخل؛ وهذا ما أوصل الدول الأوروبية إلى ما بات يشبه "الحرب الممنهجة" التي يطلقها المتطرفون القوميون وبعض "النازيين الجدد" من أجل تدمير الآثار التذكارية لحروب ولجنود ماتوا يوما ما في سبيل تحرير القارة الأوروبية نفسها والعالم من "النازية".

أمّا إن سألنا عن السبب، فهذا كلّه قد يكون من أجل استبعاد الدور المحوري الذي قام به الاتحاد السوفياتي في الماضي من أجل تحرير العالم من النازية، والتركيز اليوم على نشر فكرة خاطئة في أذهان الناس حول العالم، وخصوصا في فضاء المعلومات والتواصل الاجتماعي، تضع الاتحاد السوفياتي وطبعا روسيا، في خانة "المحتل" لأوروبا الشرقية ودول البلطيق، معيدين إحياء ذكريات مر عليها أكثر من 70 عاما مثل الحرب مع فنلندا في عام 1939 أو مع اليابان عام 1945، على أنها كلّها هجمات غادرة قام به الاتحاد السوفياتي المتمثّل بروسيا الاتحادية اليوم.

المصدر: الجزيرة

أخبار متعلقة :