عماد الشدياق نقلاً عن "عربي 21"
هل يتعرض المسلمون التتار للاضطهاد في شبه جزيرة القرم؟ سؤال ربّما تصعب الإجابة عنه من دون الخوض في التفاصيل، خصوصاً أنّ الأخبار المتداولة على وسائل الإعلام تغصّ بالمواد التي تتحدث عن مضايقات، تتعرض لها تلك الأقلية على يد الروس منذ ضمّ شبه الجزيرة في العام 2014.
المدقّق في تلك الأخبار، سرعان ما يكتشف أنّ جلّ ما يُنشر حول هذا الموضوع يقع في إطار "تضليل" لأهداف ربّما تخدم التعبئة في الحرب الدائرة بين الروس والاوكرانيين من جهة، أو تخدم الطامحين إلى توسيع نفوذهم في عمق آسيا الوسطى.
هذا التضليل يظهر في الإعلام الغربي بين الحين والآخر، للعب على النعرات العرقية واستحضار الماضي بدافع تأليب قومية التتار ضد روسيا. أمّا المشاركون في هذه المحاولات، فكثر والغرب في صدارتهم، محاولاً رسم الخطوط العريضة لهذه الأخبار، فتتبعهم بذلك وسائل إعلام حول العالم بحسبما تُظهر تلك المواد من مقالات وأخبار وتقارير.
مواقع غربية مثل "بي بي سي" و"بوليتيكو" و"ذا أتلانتيك" نشرت مؤخراً تقارير ومقالات تتحدث عن مقاومة "شرسة" يمارسها التتار ضد الروس، مستعيدة حقبة القياصرة، ثم الحقبة الستالينية للإضاءة على ممارسات الاتحاد السوفييتي، في حينه، بغية نكء الجراح.
في هذا الصدد، يقول الكاتب الأمريكي المتخصص في الدراسات السلافية والأوكرانية، روري فينين، في مقال له في "بوليتيكو"، إنّ سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم "ضعيفة"، وإنّ "أيّ تسوية سلمية مقترحة سوف تقونن احتلالها على يد روسيا"، وشبه جزيرة القرم ستكون في نظره "قنبلة موقوتة لن تكون آمنة من دون أوكرانيا، وخصوصاً على مستوى الموارد".
لكن مقابل هذه التهم، ثمة آراء تقول العكس، وتثبّت كلامها من خلال زيارات لمدن وقرى التتار في شبه جزيرة القرم، الذين يمثلون نحو 12 في المئة من سكانها، أي نحو 200 ألف نسمة من عدد السكان البالغ مليوني نسمة، بينما تبلغ نسبة السكان من ذوي الأصول الروسية 58 في المئة وهم أكبر عرقية تسكن الإقليم.
من بين هؤلاء صحافيّ استقصائيّ تركيّ الجنسية، اسمه "سيم كيران"، زار شبه الجزيرة مؤخراً وأجرى مقابلات مع شخصيات من بين تلك الأقلية المسلمة. تحدّث إلى طلاب مدارس، ومسؤولين عن مراكز ثقافية وتعليمية، ورجال دين وأئمة مساجد، واستطلع آراءهم ووثق شهاداتهم.
ألقى كيران الضوء على حرية الترك التتار في ممارسة الشعائر الدينية، وتنفّسهم الصعداء بعد عودة القرم إلى الحكم في روسيا عام 2014، مقارناً من خلال مقابلاته الممارسات التي تعرّض لها هؤلاء إبان الحقبة الأوكرانية، ثم التحوّلات الإيجابية التي طرأت بعد وصول الروس تدريجياً.
من خلال فيديو من 105 دقائق نشره كيران على صفحته في "يوتيوب"، التي تزخر بعشرات الفيديوهات من هذا النوع، ألقى الضوء على شهادات حيّة تدحض مزاعم الاضطهاد ضد أقلية القرم، فكشف النقاب عن صور لمساجد كانت حظائر للبهائم خلال الحقبة الأوكرانية، رُممت وعادت لاستقبال المصلين بعد وصول الروس إلى شبه الجزيرة.
يقول إمام أحد المسجد، إنّ "الاحتفال بأعياد المسلمين خلال الحقبة الأوكرانية كان ممنوعاً. لكنّ الأمور تبدلت مع وصول الروس. بتنا نحتفل في رمضان وفي عيد الأضحى. صارت هذه الأعياد عطل رسمية تعترف لنا الدولة بها.. هذا لم يكن موجوداً في ظل الحكم الأوكراني!".
يؤكد الإمام في حديثه، أن الحصول على رخصة لبناء مسجد بات "أمراً أكثر سهولة اليوم"، حيث تقدّم السلطات الروسية قطعة الأرض، وكمسلمين مهتمين ببناء المسجد "نتكفّل ببقية التفاصيل"، مستذكراً الحقبة الأوكرانية يوم احتجزت سلطات كييف رخصة ترميم عائدة مسجد مركزي في شبه الجزيرة لمدة 10 سنوات.
أمّا الحديث عن اضطهاد المسلمين في القرم، فيعتبره ذاك الإمام التتاري "دعايات سياسية" تتعلق بطرد الروس للجماعات المتطرفة التي كانت تتغلغل في صفوف تتار القرم. يقول إن موسكو أمهلتهم في حينه نحو سنتين، وذلك من باب الإفساح في المجال أمامهم لوقف نشاطاتهم. ثم يضيف أنّ هؤلاء المتطرفين هم من يتحدّث عنهم دوماً نائب التتار في البرلمان الأوكراني مصطفى عبد الجميل قرم أوغلو، الذي يصفه الصحافي الاستقصائي خلال تقريره بـ"غولن القرم" (نسبة إلى الداعية التركي فتح الله غولن).
أمّا مقدمة الفيديو، فيشرح فيها الصحافي التركي عن مضمون محتواه الذي يؤكد أنه يكشف الحقائق الخفية المجهولة عن شبه جزيرة القرم وعن "تركيا المخدوعة"، متهماً زعيم أتراك القرم الأسطوري مصطفى عبد الجميل كيرمز أوغلو، باستخدام التتار لمصالحه الخاصة، ومصالح الولايات المتحدة والدولة الأوكرانية من خلال اتهام الروس باضطهاد أتراك القرم لسنوات.. خاتماً مقدمته بقوله إنّ روسيا "أنقذت أقاربنا من بين أيدي حفنة من أتراك القرم التتار والأوكرانيين.. وأعطتهم حياة أفضل".
التهم نفسها تتبناها روسيا بدورها، وتوجّه أصابع الاتهام إلى تيارات داخل تركيا، تحديداً لما تسميه "بعض أركان المعارضة التركية ووسائل إعلامها" التي تحاول تحريك هواجس الأقليات في تلك المناطق، من خلال ما تعتبره موسكو ممارسة التهويل الإعلامي "المتقاطع مع الغرب"، من أجل تأليب الأقليات في الأقاليم روسية ضد السلطات في موسكو.
وفي نفسه الوقت، تعتبر موسكو أنّ هذا سلوك خلفه هدفان:
- الأول ذو "أهداف غربية"، ويرمي إلى تشويه صورة روسيا وزيادة مظاهر التطرف السياسي والديني في دول الاتحاد الروسي، مترافقا مع تشكيل صورة سلبية لموسكو على الساحة الدولية، ترمي إلى تشويه سمعتها بين دول الشرق الشرق الأوسط، ودول ما وراء القوقاز وآسيا الوسطى.
- الثاني ذو "أهداف تركية"، ويتعلّق بتصوير أنقرة على أنّها الراعي الأوحد لكل الشعوب الإسلامية والناطقة باللغة التركية، باعتبار أنّ ذلك سيقودها في نهاية المطاف إلى العودة مجدداً إلى القرم يوماً ما، واستعادة السيطرة عليها من باب أنّها كانت تحت حكم السلطنة العثمانية وأنّها الأحق في سكانها المسلمين، وهي الأحق في إدارة شؤون سكّانها المسلمين.
في المحصلّة، فإنّ هذه التفاصيل تكشف بما لا يدع للشكّ مكانا، بأنّ الودّ القائم بين أنقرة وموسكو، خلفه الكثير من الاختلاف في وجهات النظر في بعض عالقة بين الطرفين.
أخبار متعلقة :