نبيل الجبيلي نقلاً عن "الجزيرة"
منذ بداية الحرب بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل صباح السّبت الفائت، كان موقفُ روسيا واضحاً؛ صحيحٌ أنّها دعت إلى "وقف إطلاق نار فوري" و"ضبط النفس"، كما أبدت قلقاً شديداً حيال العمليّة الواسعة التي شنّتها الفصائل ضدّ إسرائيل، لكنّها لم تستطع أن تخفي امتعاضها من السلوك الإسرائيلي.
في حينه، انتهجت الدّبلوماسية الروسية سياسةً متوازنة حيال الطّرفين، وطالبتهما بالتّخلي عن العنف؛ إلاّ أنّ موسكو برغم تلك التّصريحات قد أظهرت انحيازاً واضحاً إلى جانبِ القضيّة الفلسطينيّة.
قبل نحو عام، استقبلت روسيا وفداً من حركة "حماس"، وأثارت تلك الزّيارة حفيظة تل أبيب، خصوصاً أنّها أتت في خضم توتّر العلاقات مع موسكو بعد انتقاداتٍ وجّهتها تل أبيب لروسيا حيال الحرب في أوكرانيا.
المتابع للشأن الرّوسي يلاحظ أنّ موسكو تنتهج منذ ما قبل الحرب في أوكرانيا بسنوات، أسلوباً سياسيّاً يقضي بمنع استفراد الولايات المتّحدة بملف القضية الفلسطينية، ولهذا اهتمّت موسكو مُذ ذاك، وما زالت تهتم طبعاً، بالحفاظ على علاقات جيدة مع السّلطة الفلسطينية ومنظمة التّحرير، وكذلك مع حركة "حماس" و"الجهاد الإسلامي" اللّتين ترفض تصنيفهما حركتين إرهابيتين.
قبل نحو عام، استقبلت روسيا وفداً من حركة "حماس"، وأثارت تلك الزيارة حفيظة تل أبيب، خصوصاً أنّها أتت في خضم توتّر العلاقات مع موسكو بعد انتقادات وجّهتها تل أبيب لروسيا حيال الحرب في أوكرانيا؛ في حينه ردّت موسكو بإقفال مكتب الوكالة اليهودية لارتكابه "انتهاكات إدارية".
زاد منسوب التّوتر بين الدّولتين لأسباب إضافيّة أخرى، منها رفض إسرائيل الاعتراف بحقوق الكنيسة الروسية داخل القدس القديمة، تحديداً ما يتعلّق بملكية أرض كنيسة ألكسندر التي تتهرب تل أبيب إلى اليوم من تسجيلها لصالح الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وذلك بقرار صادر من المحكمة المركزية في إسرائيل، التي ترفض دوماً الطّلب.
ولعلّ هذا ما يدفع روسيا إلى التّمسك أكثر من أي وقت مضى بحلّ الدولتين، باعتبار أنّه الحدّ الأدنى الذي يمكن أن يرضى به الفلسطينيون الذين يعرفون كما روسيا معنى أن تُسلب منك الحقوق والملكيات.
تعطي موسكو الأولويّة بملف القضية الفلسطينية إلى "العمل الجماعي" ولهذا تعوّل على "اللّجنة الرباعية الشّرق أوسطية"، باعتبارها الآلية التي بدأ العمل من خلالها منذ عام 2002م مع ممثّلين عن الأمم المتحدة والاتّحاد الأوروبي وروسيا والولايات المتّحدة الأميركية، لكنّها في الوقت نفسه تعدّ العمل بتلك اللجنة قد وصل إلى طريق مسدود، بسبب تعنّت الولايات المتحدة وإسرائيل.
في النقاشات داخل الصالونات والغرف المغلقة، لا يُوقف الدبلوماسيون الرّوس الحديث عن إخفاق الولايات المتحدة في إيجاد حلّ للصّراع العربي – الإسرائيلي الذي بات عمره، إلى اليوم، قرابة 75 عاماً، ويعتبرون انحياز واشنطن الدائم إلى جانب إسرائيل السببَ الرئيس خلف الإخفاق في إيجاد حلّ لهذا الصّراع المتجذّر.
موسكو تتّهم واشنطن بـ"احتكار جهود الوساطة" وكذلك بـ"حرف الحوار بين الفلسطينيّين والإسرائيليين بعيداً عن التّسوية السياسية وإقامة الدولة الفلسطينية"، وباستبدال الحديث عن تخفيف الأزمات الاجتماعية والاقتصادية للسكان الفلسطينيين بتنفيذ قرارات مجلس الأمن، ومن خلال إلهاء العرب والفلسطينيين بدعوتهم إلى إقامة اتّصالات مع الإسرائيليين باعتبار أنّ تلك الاتصالات تضمن "الأمن اليومي" بين الطّرفين على الأرض، لكنّ ذلك كلّه من أجل عدم تحدّث واشنطن وتل أبيب عن قيام دولة فلسطينية.
لا تخفِ موسكو تأييدها للحل الدّبلوماسي من أجل حلّ الصّراع، وترسل إشارات واضحة (لمن يفهم في لغة الإشارة) بأنّ مسؤوليها السياسيين والدبلوماسيين، وعلى رأسهم القيادة الروسية في الكرملين، يكنزون في صدورهم ميلاً إلى دعم حقّ الفلسطينيين المشروع في الدّفاع عن حقوقهم، وكذلك عن حريتهم واستقلالهم.
ترى موسكو في هذا الصّدد، أنّ إسرائيل هي الجهة الأولى المسؤولة عمّا يحدث اليوم في غزّة، وأنّ ما قامت به الفصائل الفلسطينية هو ردّ فعل على فعل أعمق؛ فالضّغوط الإسرائيليّة والغربيّة التي مورست ضدّ الفلسطينيين في غزّة وخارجها، هي التي أوصلت هذا الشّعب إلى "نقطة حرجة"، ودفعت به إلى تبنّي تلك الخيارات العنيفة.
بل هي التي أدّت إلى انفجار الصّراع مجدداً، خصوصاً لناحية عدم احترام الإسرائيليين لحقّ الشّعب الفلسطيني، ناهيك عن الإصرار على إذلاله وتدنيس مقدّساته المتكرر، وخنق الفلسطينيين والتّضييق عليهم في المعتقلات.
ولهذا تعيد موسكو تكرار موقفها التّاريخي الثّابت حول هذا الصّراع، الذي يفيد بأنّ العنف لن يؤدّي إلى حلّ، وإنما الحلّ يأتي بالوسائل الدبلوماسيّة والسياسيّة وعمليّة التفاوض وفق أسس القانون الدّولي وقرارات الشرعيّة الدّولية، بوصفها المدخل الطّبيعي لبلوغ السّلام بين الطّرفين، الذي يفترض أن يضمن في نهاية المطاف "إقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة".
هذا الكلام عادت موسكو لتؤكّده بعد ساعات من اندلاع المواجهات وعلى لسان أكثر من مسؤول؛ إذ اعتبرت أنّ حلّ الصّراع الفلسطيني – الإسرائيلي لا ينتهي إلاّ بـ"إقامة دولة فلسطينية مستقلة ضمن حدود عام 1967م وعاصمتها القدس الشرقية"، وكان هذا الموقف من بين سائر مواقف الدول غير العربية، الأكثر تقدماً ووضوحاً.
وكذلك تؤكد موسكو اليوم، أنّ الأمن لا يمكن ضمانه إلاّ من خلال مكافحة التطرّف، وكذلك من خلال عدم تقويض قرارات الأمم المتحدة والشروع بالموافقة على تطبيق قرارات الشرعيّة الدّولية وإقامة دولة فلسطينية.. وإلاّ فإنّ نقل الوجع الفلسطيني إلى العالم، وإيصال أصوات هؤلاء الفلسطينيين ومشاهد إراقة دمائهم وتدمير المباني السكنية فوق رؤوسهم، هو أمر واجب وملحّ.
أخبار متعلقة :