نبيل الجبيلي نقلاً عن الجزيرة
يستغربُ العالم صبر روسيا الطويل، والتحكم في ردّات فعلها على الاستفزازات الغربية المستمرة دون توقف منذ سنوات. وفي المقابل، يُلاحظ المراقب للسلوك الروسي حجم الانضباط في تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وذلك في معرض ردّه على تجاوزات الزعماء الغربيين في حقه وحق روسيا الاتحادية، بدءًا من الرئيس الأميركي جو بايدن، مرورًا بـ"مراهقي" السياسة من زعماء القارة الأوروبية، الذين أصبحت أيامهم على كراسيهم معدودة على ما يبدو، بفعل هجمة "اليمين المتطرف" التي تجتاح أوروبا.
يعتقد كثيرون أنّ بوتين – عاجلًا أو آجلًا- قد يفقد صبره، ويبدأ حربًا نووية لن ينجو منها أحد، وهذا ما يكرّره الرئيس الروسي دائمًا، محذرًا من الاستمرار في سياسة التهوّر والعدائية ضد "دولة نووية" بحجم روسيا، مراهنًا على ما تبقى من رشد الزعماء الغربيين، علّهم يرتدعون ويعقلون. والتحذيرات الروسية ليست تهديدًا كما يدعي زعماء الدول الغربية، وإنّما حكمة ومحاولة لـ "ضبط النفس".
يغيب عن بال هؤلاء أنّ "اللعب بالنار" قد يحرق الجميع. لكن برغم ذلك، فإنّ روسيا مستمرة في مد "يد السلام" بشرط الحفاظ على أمنها القومي، الذي نكث الأوروبيون بالتزاماتهم بشأنه، بدءًا بمؤتمرات أو اتفاقيات مينسك الأوكرانية، وصولًا إلى يومنا هذا، إذ ينقلبون على تعهداتهم، ويتخطّون كل الخطوط الحمر غير مبالين بالسلم والأمن الدوليين. وفي كل مرة، تتعالى روسيا على الخداع والعداء الغربيين، وتبحث عن المخارج، فتطرح الحل على الطاولة من أجل تجنب "المواجهة المباشرة".
لم تكن زيارة الرئيس الروسي إلى كوريا الشمالية وفيتنام إلّا اتباعًا عقلانيًا لتلك السياسة التي نتحدث عنها، ومحاولة جديدة من أجل تجنّب الصدام، وتحذير الدول الأوروبية والولايات المتحدة من أنّ الحرب في حال فُرضت على روسيا، فإنّها حتمًا لن تكون نزهة، بل ستكون نهاية حتمية، أو "حربًا أخيرة".. وبعدها ربّما لن ينفع الندم.
الزيارة كانت مدروسة بعناية ومنسقة مسبقًا مع حلفاء روسيا على أعلى المستويات، وعلى قاعدة "عدو عدوّي صديقي"، خصوصًا بعدما رفعت الولايات المتحدة منسوبَ دعمها لكوريا الجنوبية، ووسّعت مع سول وطوكيو مناوراتها التدريبية المشتركة، وواصلت من خلال ذلك تعزيز ظهور المُعدّات العسكرية الأميركية الإستراتيجية في منطقة "الباسيفيك" وبحر الصين، على الرغم من شجب بيونغ يانغ التدريبات المشتركة المماثلة، ووصفها بأنّها تدريبات على غزو أراضيها.
لكن يبدو أنّ واشنطن لم تهتم لتلك التحذيرات، ولهذا أرسلت واحدة من حاملات الطائرات إلى شواطئ الشطر الجنوبي من كوريا، وذلك من أجل تنفيذ تلك المناورات، ربما من أجل استفزاز الجارة الشمالية. وزيارة حاملة الطائرات تلك إلى سول، تأتي بعد قرابة 7 أشهر من وصول حاملة طائرات أميركية أخرى، هي "يو إس إس كارل فينسون" إلى جنوب الجزيرة الكورية، في استعراض للقوة ضد بيونغ يانغ.
ولهذا أيضًا، كان لا بدّ من أن تخلق روسيا وحليفتها كوريا الشمالية واقع إستراتيجية دفاعية جديدة، يتعهّد من خلالها كل من بوتين ونظيره الكوري كيم جونغ أون بمساعدة بعضهما البعض في حالة تعرض أيّ منهما لهجوم غربي مفترض.. على أمل أن تفهم واشنطن هذا المستجدّ، وتعود عن قرار تأجيج الصراعات في تلك المنطقة البعيدة عن حدودها.
اللعبة الأميركية لم تعد خافية على أيّة دولة حول العالم، وتتلخص بخلق نزاعات من أجل بيع الأسلحة وزيادة أرباح شركاتها الخاصة العابرة للقارات، وبالتالي إيقاع الدول المتناحرة في "فخ" الحماية الأميركية.. وعندها تصبح تلك الدول مرهونة بالكامل لواشنطن؛ لأنّ الهدف ليس الحماية أو نشر الحرية أو الديمقراطية مثلما يُظنّ، وإنّما إغراق الدول بالسلاح وإدخالها في حروب مسعورة ثم تدميرها، وهذا ما قد يسهّل على واشنطن الحصول على مقدراتها.
وهناك الكثير من النماذج التي شاهدها العالم بأسره في العقدين الماضيين، مثل العراق وغيره من الدول، وكان آخرها أوكرانيا، التي قال عنها زعيم النواب الجمهوريين في الكونغرس ليندسي غراهام، إنّها تنام على ثروات تُقدّر بنحو 12 تريليون دولار و"نريد أن نأخذها حتى لا تحصل عليها روسيا والصين".
هذا السلوك يدفع دول الجنوب إلى إعادة النظر في مقاربة النهج الأميركي؛ فالصين مثلًا باتت تدرس بعمق الانضمام إلى اتفاقية دفاعية مشابهة لتلك الموقعة بين روسيا وبيونغ يانغ، بعدما نفد صبرها فيما يبدو من كل الاستفزازات الأميركية والإملاءات الغربية، مضطرة إلى ذلك؛ لأنّها قد لا تنجو من "العبث" الأميركي على حدودها، والتدخل في شؤونها الداخلية.
أخبار متعلقة :