خبر

كيف منعت السّعوديّة الغرب من مصادرة أصول روسيا؟

سامر زريق نقلاً عن "أساس ميديا"

على الرغم من نفي السعودية رسمياً قيامها بتهديد مجموعة دول “مجموعة السبع” أو “G7” بالتخلّي عن حيازاتها من السندات الأميركية والأوروبية، إلا أنّ ذلك لا يلغي الدور الحاسم الذي لعبته الرياض في عقلنة جموح الأوروبيين، ودفعهم إلى التخفيف من الانسياق المفرط خلف الرغبة الأميركية بالاستيلاء على أصول روسيا المجمّدة، التي تزيد على 300 مليار دولار، وهو ما يثبت الأهمّية المتزايدة للدور السعودي في إرساء التوازن في النظام العالمي.

منذ بدء حرب روسيا ضدّ أوكرانيا حتى اليوم، جمّد الاتحاد الأوروبي، بالاشتراك مع “مجموعة السبع” (أميركا وكندا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان وأستراليا)، أصولاً روسية تقدّر بنحو 300 مليار يورو، بما يعادل تقريباً نحو نصف احتياطات المصرف المركزي الروسي من النقد الأجنبي. وتوجد ثلثا الأصول الروسية على شكل نقد أو أوراق مالية في أوروبا، بعدما كانت موسكو قد سحبت معظم أصولها من أميركا عام 2018، غداة العقوبات التي فرضتها عليها واشنطن إثر انضمام “القرم” إلى الاتّحاد الروسيّ.

تتركّز غالبية هذه الأصول في حسابات “يوروكلير” البلجيكية، وهي شركة خدمات مالية متخصّصة في تسوية المعاملات المالية، وتقوم بدور “غرفة المقاصّة” الأوروبية، وتعدّ من أكبر أنظمة التسوية في العالم.

علاوة على ذلك، أفضت العقوبات المفروضة على شخصيات روسية إلى تجميد نحو 58 مليار دولار من الأصول تضمّ منازل ويخوتاً وطائرات خاصة، وذلك حسب تقرير صادر عن وزارة الخزانة الأميركية.

ومع ذلك، وعلى الرغم من العقوبات القاسية، وحرمانها من الاستفادة من أصولها المجمّدة، تمكّنت موسكو من تحقيق فائض في الحسابات الجارية للعام الثاني على التوالي بلغ 140 ملياراً العام الماضي، حسب الأرقام الرسمية الصادرة عن الحكومة الروسية.

إلى ذلك، تحتلّ السعودية المركز الـ17 ضمن لائحة كبار حاملي السندات الأميركية، حيث بلغت حيازاتها من هذه السندات في شهر نيسان الماضي نحو 135 مليار دولار. وتتوزّع هذه الاستثمارات على الشكل التالي: 79% في سندات طويلة الأجل، تعادل ما يزيد على 106 مليارات دولار، و21% في سندات قصيرة الأجل تعادل ما يزيد على 29 مليار دولار. في حين تقدّر حيازات السعودية من سندات الدين الأوروبية بعشرات مليارات الدولارات.

ضغط سعوديّ ناعم

قبل أسابيع، نقلت وكالة “بلومبيرغ” عن “مصادر مطّلعة” تلميح السعودية إلى إمكانية بيع بعض حيازاتها من الديون الأوروبية إذا ما قرّرت “مجموعة السبع” مصادرة أصول روسيا المجمّدة. وأفادت نقلاً عن مصدرين مطّلعين أنّ السعوديين ذكروا بالتحديد السندات الصادرة عن الخزانة الفرنسية. بالتوازي مع ذلك، أشارت تقارير إعلامية إلى أنّ وزارة المالية السعودية أبلغت نظراءها في “مجموعة السبع” معارضتها لفكرة الاستيلاء.

أتى الضغط السعودي الناعم قبل وقت قصير من انعقاد قمّة “مجموعة السبع” في حزيران الماضي، وبعد أشهر من المداولات والنقاشات التي كانت واشنطن تضغط خلالها على باقي أعضاء مجموعة السبع من أجل الاستيلاء على الأصول الروسيّة بالكامل. وفي النهاية نجحت السعودية في تحقيق النتائج المتوخّاة من الضغط الناعم، بعدما عدلت “مجموعة السبع” عن فكرة الاستيلاء على الأصول الروسية المجمّدة، واكتفت باتّخاذ قرار بتحويل العائدات المتأتّية من هذه الأصول المجمّدة لدعم كييف.

أفضت العقوبات المفروضة على شخصيات روسية إلى تجميد نحو 58 مليار دولار من الأصول تضمّ منازل ويخوتاً وطائرات خاصة
بعدها نفت المملكة عملية التهديد، أي الأسلوب، وليس الفعل نفسه الذي استخدمت فيه الرياض الضغط الناعم، بما يتّسق ونهجها التاريخي في سياستها الخارجية. وهذا ما عادت وأكّدته وكالة بلومبيرغ في تقرير حديث لها نقلت فيه عن مسؤول سعودي بارز قوله: “ليس من أسلوب الحكومة السعودية إطلاق مثل هذه التهديدات، لكنّها ربّما أوضحت لأعضاء مجموعة السبع العواقب النهائية لأيّ مصادرة” لأصول روسيا.

الأمر الذي يثبت الأهمّية المتزايدة للدور السعودي في إرساء التوازن في النظام العالمي، ولا سيما بعدما طوّرت الرياض علاقاتها مع الصين وروسيا. وتقود السعودية وروسيا عمليّاً تحالف “أوبك بلاس” لمنتجي النفط. وأسهم التعاون بينهما في الحفاظ على استقرار سوق الطاقة في مواجهة مساعي الغرب إلى العبث بأسعار السوق بما يخدم مصالحه ويضرّ بالدول المنتجة. وهو ما دفع واشنطن إلى استخدام قسم من مخزونها النفطي الاستراتيجي، وكذلك فعلت دول أوروبية بارزة. علاوة على انضمام السعودية حديثاً إلى تكتّل “البريكس”، الذي يتحوّل يوماً بعد آخر إلى قوّة اقتصادية تمثّل ما بات يعرف اليوم بـ”الجنوب العالمي”، ويضع نصب عينيه كهدف استراتيجي التخلّص من الهيمنة الأميركية، وتأسيس نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب يضمن للدول والاقتصادات الناشئة صوتاً مسموعاً وشراكة على قدم المساواة في صنع القرار.

في الوقت نفسه، يسلّط نجاح الضغط السعودي الناعم الضوء على الصعوبات التي تكابدها واشنطن و”مجموعة السبع” في الحصول على دعم دول “الجنوب العالمي” لأوكرانيا، مقابل نجاح روسيا في استغلال العقوبات الغربية عليها من أجل الانفتاح على الشرق وآسيا وإفريقيا وتوطيد علاقات تقوم على الشراكة والفرص المستقبلية التي تتيحها بعيداً عن النظرة الاستعلائية الغربية وأسلوب الإملاءات الأميركي. هذه التطوّرات تنظر إليها واشنطن بقلق تترجمه تقارير ودراسات مراكز بحثية أميركية.


السّعوديّة ترفض إرساء “سابقة” دوليّة
مبعث القلق لدى القادة الأوروبيين ليس الخسائر الماليّة المباشرة المتأتّية من بيع السعودية للسندات التي تستحوذ عليها فقط، بل كذلك من تأثير قرار الرياض في تشجيع حكومات أخرى على القيام بالفعل نفسه، وهو ما سيؤدّي إلى إحداث أزمة ماليّة لدى الدول الأوروبية.

إذا كانت السعودية تنطلق في مقاربتها من لاأخلاقية فكرة الاستيلاء على الأصول الروسيّة، وخرقها القوانين الدولية، فإنّها أيضاً تستبطن نظرة استشرافية لإمكانية تحوّل هذه الفكرة في حال عدم مواجهتها، إلى سلاح تستخدمه أميركا والدول الأوروبية ضدّ كلّ دولة تختلف معها سياسياً في المستقبل.

أميركا لديها سوابق مقلقة في هذا المجال، حيث سبق لها أن صادرت 1.7 مليار دولار من الأموال العراقية المجمّدة عام 2003 عقب إسقاطها نظام الرئيس الراحل صدام حسين. وقبلها صادرت عام 1996 أموالاً كوبيّة مجمّدة، واستخدمتها للتعويض على عائلات 3 مواطنين أميركيين لقوا حتفهم غداة إسقاط الجيش الكوبي طائرات عسكرية أميركية.

لا ننسى أنّ الضغط الناعم الذي قادته السعودية يصبّ في مصلحة روسيا، ويعبّر عن حرص الرياض على علاقتها مع موسكو، التي بدأت عام 1926، حيث كان الاتحاد السوفيتي أوّل دولة تعترف بقيام المملكة العربية السعودية. ثمّ مرّت العلاقات الثنائية بمراحل صعود وهبوط، إلى أن تطوّرت بشكل بارز في السنوات الأخيرة، بإشراف مباشر من وليّ عهد السعودية ورئيس حكومتها الأمير محمد بن سلمان، الذي زار روسيا عدّة مرّات بين عام 2015 والعام الحالي.

كما زارها العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز عام 2017، وكانت أوّل زيارة لملك سعودي لروسيا. ويتعاون البلدان في العديد من المجالات، وخصوصاً في مجال الطاقة والبحث العلمي، ويعتزمان زيادة حجم التبادل التجاري بينهما إلى حدود 5 مليارات دولار، كما صرّح بذلك المسؤولون في كلا البلدين. كما أنّ روسيا تولي أهمّية كبيرة لتطوير علاقتها مع السعودية كـ”شريك موثوق”، بما يخدم الحفاظ على الأمن والسلام في الشرق الأوسط والعالم، لا سيما أنّ المملكة منذ بدء الأزمة الأوكرانية تدعم الجهود الرامية إلى الوصول إلى حلّ سياسي، واستثمرت علاقاتها الجيّدة مع طرَفي الأزمة للقيام بدور الوسيط غير مرّة.

وهذا المستوى المتقدم من التعاون والتنسيق نجد ترجمته في التواصل الدائم والمباشر بين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي زار المملكة أواخر العام الماضي على رأس وفد كبير. وأحدث محطاته كانت المباحثات الهاتفية بينهما منذ يومين، والتي “ناقشا خلالها التعاون الروسي السعودي في المجالات السياسية والاقتصادية والتجارية والطاقة”، حسب البيان الرسمي الصادر عن الكرملين. في حين أن آخر تواصل مباشر بين ولي العهد السعودي والرئيس الأميركي جو بايدن مضى عليه ما يزيد عن 8 أشهر.

أخبار متعلقة :