وتضمن التحقيق مراجعات لمئات الرسائل الإلكترونية الداخلية، ووثائق الشركة، والسجلات الفدرالية، ومقابلات مع عشرات العمال الحاليين والسابقين في المصنع، كاشفاً عن "ثقافة" معينة أخذت تسود في المصنع الحديث لطائرات بوينغ، تقوم وتستند إلى "السرعة في الإنتاج على حساب الجودة والنوعية".
تسريع الإنتاج وثغرات السلامة
من بين الشكاوى التي أثارها العمال في مصنع دريملاينر، أن الوتيرة المحمومة للإنتاج تعكس مخاوف أوسع وأكبر بشأن الشركة، خصوصا في أعقاب كارثتي "بوينغ 737 ماكس"، أي تحطم طائرة "ليون إير" الإندونيسية وطائرة الخطوط الإثيوبية.
وتواجه بوينغ الآن شكوكا بشأن ما إذا كان تسرعها لتصنيع وإنجاز طائرات "ماكس" للفوز بالسباق مع منافستها الأوروبية "إيرباص"، قد أدى بها إلى تفويت أمور تتعلق بالسلامة في التصميم، مثل نظام المناورة في الطائرة، الذي لعب دورا أساسيا في كلا الحادثين.
فقد استدعت "ثغرات السلامة" في مصنع الشركة في نورث تشارلستون شركات الطيران والجهات التنظيمية الأخرى إلى التحقق من الطرز الجديدة من طائرات بوينغ، إذ أعلنت بعض الشركات عن عدم قبول الطائرات المصنعة من هذا المصنع بعد الأخطاء التصنيعية وتأخر تسليم الشحنات.
وبحسب الوثائق التي حصلت عليها الصحيفة الأميركية، فقد قدم العمال حوالي 12 شكوى إلى الجهات التنظيمية الفدرالية تتعلق بالسلامة، وتصف القضايا "عيوبا تصنيعية"، وبقاء مخلفات تصنيعية على الطائرات، والضغوط على العمال من أجل عدم الإبلاغ عن الانتهاكات.
وقام البعض بمقاضاة بوينغ، قائلين إنهم تعرضوا لإجراءات انتقامية من قبل الشركة بسبب أخطاء تصنيعية كبيرة.
فقد قال الفني جوزيف كلايتون، الذي يعمل في مصنع نورث تشارلستون، وهو أحد مرفقين لتصنيع طائرات دريملاينر، إنه كان يعثر دائما على بقايا ومخلفات متروكة بشكل خطير بالقرب من الأسلاك تحت قمرات قيادة الطائرات.
وأضاف كلايتون أنه أبلغ زوجته بأنه لن يركب أبدا مثل هذه الطائرات، موضحا أن المسألة تتعلق بالسلامة.
ومن هنا فإن الجهات التنظيمية والمشرعين أخذوا على عاتقهم التحقيق بشكل أكبر وأعمق في أولويات شركة بوينغ، وما إذا كانت الأرباح تطغى على السلامة في بعض الأحيان، بحسب ما ورد في تحقيق صحيفة "نيويورك تايمز".
وبذلك تجد قيادة بوينغ، وهي واحدة من أكبر الشركات الأميركية في مجال التصدير، نفسها في موقف لم تعهده من قبل، وهو اضطرارها إلى الدفاع عن ممارساتها ودوافعها.
أخطاء العمال والأخطاء التصنيعية
وقال رئيس قسم الطائرات التجارية في بوينغ، كيفين مكاليستر، في بيان: "يقدم العاملون في مصنع الشركة في ساوث كارولينا أعلى مستويات الجودة في تاريخنا.. إنني فخور بالتزام فريقنا الاستثنائي بالجودة ووقوفهم وراء العمل الذي يقومون به كل يوم".
إن وقوع أخطاء تصنيعية أمر تتعامل معه كل المصانع، ولا يوجد دليل على أن المشكلات في مصنع الشركة في ساوث كارولينا قد أدى إلى أي حوادث جوهرية تتعلق بالسلامة، كما أنه لم تتحطم أي طائرة من طراز دريملاينر، على الرغم من توقف أسطول هذا الطراز مؤقتا بسبب احتراق البطارية في عدد من الطائرات، كما أن شركات الطيران والخطوط الجوية المختلفة تثق بهذا الطراز.
غير أن العمال يرتكبون بعض الأخطاء الخطيرة، بحسب تصريحات لعمال حاليين وسابقين في بوينغ، رفضوا الكشف عن أسمائهم خشية تعرضهم لعواقب وانتقام.
وتتضمن الشكاوى العديدة حول تصنيع طائرات بوينغ، تركيب قطع تعاني من عيوب تصنيعية، وترك أدوات وقطع وبقايا معدنية داخل الطائرة، وغالبا بالقرب من الأنظمة الكهربائية فيها.
حتى إن الطائرات قامت بطلعات تجريبية بوجود بقايا وقطع ومخلفات في المحركات وفي منطقة الذيل، مما كان ينذر بفشل تجربة الطائرات.
رئيس بوينغ يدافع عن "دريملاينر"
وقال مدير الجودة السابق في بوينغ، والذي عمل لأكثر من 3 عقود قبل تقاعده عام 2017، جون بارنيت، إنه اكتشف كميات كبيرة من الشظايا المعدنية المعلقة على نظام الأسلاك الكهربائية، التي تتحكم بعمليات التحليق، مشيرا إلى أنه لو اخترقت مثل هذه الشظايا المعدنية الحادة الأسلاك الكهربائية لربما نجم عن ذلك كارثة.
وكشف بارنيت أنه حذر مرارا وتكرارا مدراءه، طالبا إزالة تلك الشظايا المعدنية الحادة، لكنهم رفضوا ذلك ونقلوه إلى قسم آخر في المصنع.
من جانبه، قال المتحدث باسم هيئة الطيران الفدرالي لين لونسفورد، إن الهيئة قامت بفحص عدة طائرات معتمدة من قبل بوينغ باعتبارها خالية من المخلفات التصنيعية، ومع ذلك فقد عثر على مثل هذه الشظايا المعدنية الحادة.
وقال إنه في بعض الحالات قد تؤدي المشكلة إلى إطلاق شرارة كهربائية وتتسبب بالتالي بحريق داخل الطائرة.
ويعتقد المسؤولون أن الشظايا المعدنية ربما تكون مسؤولة عن أضرار وقعت على طائرة أثناء الخدمة في عام 2012، بحسب ما ذكر شخصان على دراية بالمسألة.
وفي عام 2017، أصدرت هيئة الطيران الفدرالي توجيهات تطالب شركة بوينغ بتنظيف طائرات دريملاينر من الشظايا المعدنية الحادة، قبل أن يتم تسليمها.
وقالت بوينغ إنها استجابت للتوجيهات، وأنها تعمل مع المزودين لتحسين الصواميل والبراغي، لكنها أصرت على أن المسألة لا تشكل خطرا على سلامة الطيران.
وقال بارنيت: "بصفتي مدير جودة في بوينغ، فقد كنت خط الدفاع الأخير قبل يؤثر الخلل على الناس أثناء تحليق الطائرات".
وتابع: "وحتى الآن لم أر طائرة خرجت من مصنع تشارلستون يمكنني أن أضع توقيعي على أوراقها والقول إنها سليمة وتستحق الطيران".
أوقات عصيبة
بعد أقل من شهر على تحطم الطائرة الإثيوبية من طراز 737 ماكس، دعت شركة بوينغ موظفي وعمال مصنع نورث تشارلستون لاجتماع عاجل، ملخصه أن الشركة تواجه مشكلة وهي أن الزبائن عثروا على قطع وأشياء مختلفة في الطائرات الجديدة.
وبحسب اثنين من العمال في الشركة حضرا الاجتماع، ورفضا الكشف عن اسميهما، دعا مدير كبير في الشركة العمال إلى فحص الطائرات بعناية، ومن هنا يتضح أن مشكلة القطع والمخلفات، التي يطلق عليها مسمى "مخلفات خارجية" تعتبر قضية شائعة في الطيران.
والمطلوب من العمال تنظيف باطن الطائرة، وغالبا ما يستخدمون المكانس الكهربائية في ذلك، لذلك فإنهم لا يتسببون بتلويث الطائرات بالأدوات والشظايا المعدنية الحادة أو أي قطع أخرى.
ومع ذلك ظلت مشكلة البقايا والمخلفات قائمة في مصنع الشركة في ساوث كارولينا، ففي رسالة بالبريد الإلكتروني ذكّر رئيس برنامج طائرة دريملاينر، براد زاباك، موظفي المصنع في تشارلستون بأن البقايا والمخلفات المتروكة في أبدان الطائرات "يمكن أن تتسبب بعواقب وخيمة إذا لم يتم التحقق منها".
ويبدو أن المسألة كلفت بوينغ في مصانعها الأخرى، ففي آذار الماضي، أوقف سلاح الجو الأميركي استلام طائرة بوينغ كيه سي-46، التي يتم تصنيعها في مصنع الشركة في إيفريت بواشنطن، المصممة لتزويد الطائرات المقاتلة بالوقود جوا.
وجاء التوقف عن استلامها بعد العثور على مفتاح ربط وبراغي وصواميل وقمامة داخل الطائرات الجديدة.
وبعد هذه الحوادث، أدلى مساعد وزير سلاح الجو ويل روبر، بشهاد حول هذا الأمر أمام لجنة تابعة للكونغرس في آذار الماضي وقال: "بصراحة.. هذا الأمر غير مقبول".
وقالت بوينغ إنها تعمل من أجل حل المشكلة مع سلاح الجو، الذي استأنف استلام الطائرات في شهر أبريل.
ضغوط وفصل تعسفي
وفي مصنع نورث تشارلستون، تحدث عمال حاليون وسابقون حول خسارة المعركة مع المخلفات والبقايا داخل أبدان الطائرات، إذ قال العامل الفني السابق في الشركة ريتش مستر، الذي يقوم بمراجعة الطائرات قبل تسليمها، إنه عثر على أنابيب لواصق وصواميل وغيرها من المواد الداخلة في عملية تصنيع الطائرة.
وأضاف مستر، الذي طرد من عمله وتم تقديم شكوى باسمه لدى مجلس علاقات العمال الوطني بشأن فصله من وظيفته: "يفترض بهم أن يقوموا بفحص هذه المشكلة، ولكنها تشق طريقها إلينا".
ومن بين ما عثر عليه العمال داخل ذيل الطائرة، على سبيل المثال، سلما ومجموعة مصابيح إنارة كانت موجودة بالقرب من أجهزة التوازن الأفقي للطائرة، مما قد يتسبب بتعليق عمل هذه المعدات.
وقال الموظف السابق في شركة أميركان إيرلاينز، دان أورمسون، إنه جرت العادة أن يتم العثور على بقايا ومخلفات أثناء عمليات تفتيش طائرات دريملاينر في نورث تشارلستون.
واكتشف أورمسون أيضا أشياء متخلخلة تلامس الأسلاك الكهربائية، وخرق قماش بالقرب من معدات الهبوط.
وفي كثير من الأحيان، كان أورمسون يجمع قطع وبقايا مختلفة ويضعها في حقيبة مغلقة ليعرضها على ديف كاربون، وهو أحد كبار المسؤولين في المصنع.
وقد تتسبب البقايا والمخلفات بأوضاع خطيرة، وقال أحدهم إن أورمسون عثر ذات مرة على قطعة لفافة بلاستيكية بفقاعات هوائية بالقرب من الدواسة التي يستخدمها مساعد الطيار للتحكم باتجاه الطائرة، الأمر الذي كان من الممكن أن يتسبب بعرقلة الرحلة الجوية.
وذات مرة عثر أورمسون على صامولة غير محكمة الشد داخل أحد محركات الطائرة، وكان لهذا الأمر أن يتسبب بعطل في المحرك.
وكانت طائرة دريملاينر 787، عندما أعلن عنها عام 2007، تعتبر أهم طائرة حديثة يعلن عنها خلال جيل كامل، وشكلت الطائرة العريضة والخفيفة المصنوعة من ألياف الكربون والأكثر تطورا "صرعة" بالنسبة للشركات الباحثة عن توفير الوقود.
وطلبت شركات الطيران مئات الطائرات من هذا الطراز، الذي يبلغ السعر الأدنى للواحدة منها حوالي 200 مليون دولار.
عمالة غير مؤهلة
وبالنظر إلى الطلب العالي على طائرات دريملاينر 787، أنشأت بوينغ مصنعا آخر لهذا الطراز في ولاية ساوث كارولينا.
وكان المصنع في نورث تشارلستون مثاليا بكل المقاييس، حيث أن ولاية ساوث كارولينا تعتبر الأقل تمثيلا نقابيا في البلاد، مما يمنح بوينغ فرصة تشغيل عمال بأقل الأجور.
بالإضافة إلى ذلك، خصصت ولاية ساوث كارولينا نحو مليار دولار على شكل حوافز ضريبية، بما في ذلك مبلغ 33 مليون دولار لتدريب العمال المحليين، فيما تعهدت شركة بوينغ بتوفير 3800 وظيفة.
ويبدو أن الشركة كانت تميل إلى عدم تشغيل موظفين أو عمال نقابيين أو حتى نقل موظفين وعمال من مقر تصنيع الطائرة الأول في إيفريت، بحسب ما ذكر اثنان من الموظفين السابقين في الشركة.
ولذلك، لجأت الشركة إلى توظيف خريجين جدد من كليات تقنية من تولسا في أوكلاهوما ومن أتلانتا.
وقال ديفيد كيتسون، مدير الجودة السابق في الشركة: "إنهم (بوينغ) لم يرغبوا في أن نجلب موظفين نقابيين إلى منطقة غير ممثلة نقابيا".
وأضاف كيتسون الذي تقاعد عام 2015: "لقد عانينا بسبب ذلك.. فلم يكن هناك عمالة محلية مؤهلة"، وهو الأمر الذي أكدة فيما قال المدير الآخر السابق مايكل ستوري.
فرحة ناقصة وأكاذيب
وتأخرت عمليات إنتاج الطائرة سنوات عن الموعد المقرر بسبب مشكلات تصنيعية وأخرى تتعلق بتأخر استلام القطع من الشركات المزودة، وفاقم نقص العمالة في نورث تشارلستون الأمر.
ولم تدم الفرحة كثيرا بعد دخول أولى طائرات دريملاينر الخدمة في أواخر 2011، إذ بعد نحو عام تقريبا تم إيقاف كامل أسطول الطائرات من هذا الطراز بسبب حريق بطارية في إحدى الطائرات التابعة للخطوط الجوية اليابانية.
واضطرت الشركة إلى دفع تعويضا للشركات المتضررة، وتفاقمت الأوضع في المصنع مع تراكم التأخير في عمليات الإنتاج.
وفي الأثناء، كانت شركة إيرباص الأوروبية تحقق تقدما كبيرا بطائراتها من طراز إيه 350.
وكان لعمليات التأخير في مصنع نورث تشارلستون عواقب ومضاعفات، حيث بدأت المئات من المعدات تختفي، عثر على بعضها بالقرب من الطائرات، بحسب ما ذكر المديران السابقان في الشركة، جنيفر جاكوبسون، وديفيد ماكلوفلن، في شكوى تقدمت بها جاكوبسون عام 2014.
وأشار المديران إلى أنه طلب منهما التغطية على عمليات التأخير، بينما كانت تقارير تقدم إلى مجلس الإدارة وحملة الأسهم والزبائن بأن العمل جار على قدم وساق ووفق المخطط.
بالإضافة إلى ذلك، فقد تعرضت إحدى الطائرات التي يتم تصنيعها لصالح "أميركان إيرلاينز"، لأضرار بليغة بسبب فيضان المياه داخل الطائرة، فغرقت المقاعد والسجاد والإلكترونيات، مما أدى إلى أسبوع عمل إضافي من أجل إصلاح الأضرار.
وبعد كثرة شكاوى مدراء وموظفين سابقين في الشركة والبلاغات عن الأخطاء والتقصير، كان كبار المسؤولين يدفعون مدراء الجودة في المصنع من أجل وقف والامتناع عن تسجيل العيوب والأخطاء.
وتحولت الخلافات بين المدراء السابقين الذي تركوا وظائفهم في بعض الأحيان إلى صراعات قانونية وقضايا في المحاكم، إما بسبب الفصل التعسفي أو الإقالة لأسباب غير حقيقية أو بسبب الإكراه على الاستقالة.
وحاليا، تسارعت عمليات الإنتاج في مصنع نورث تشارلستون، كما تسارعت عمليات إنتاج الطائرة من مصنعيها إلى 14 طائرة شهريا، مقارنة بـ12 طائرة سابقا.
وفي الأثناء، قالت الشركة إنها قلصت مئات الوظائف المتعلقة بمراقبة الجودة من المصنع في نورث تشارلستون.
وقال العامل الفني السابق مستر إن الشركة تحاول تقليص وقت التصنيع، وأضاف متسائلا: "لكن هل يمكن التضحية بالسلامة من أجل زيادة الأرباح؟"